الاثنين، 11 فبراير 2013

لماذا تعثرت الثورات العربية ؟


السيد ولد أباه
استمعت إلى أرملة السياسي التونسي «شكري بلعيد» الذي اغتيل في تونس مؤخراً تقول بكل كبرياء وكرامة وعيناها تسكبان دمعاً:«إن جريمة قتل زوجي لن تجعلني أحن إلى النظام السابق الذي حاربنا ديكتاتوريته من دون حرية لا أمن ولا استقرار».لخصت هذه العبارة الجدل الدائر بقوة في بلدان «الربيع العربي» حول تجربة الثورات التي أطاحت بالأنظمة التسلطية السابقة التي كانت تقوم على نمط من «الشرعية الأمنية» في الوقت الذي لم تتمكن الحكومات المنتخبة من تأمين الاستقرار السياسي رغم «الشرعية الديمقراطية» القائمة.كتب البعض مفسراً الظاهرة بالعوامل الثقافية الاجتماعية أي عدم قابلية المجتمعات العربية لاستيعاب قيم الديمقراطية التعددية وحاجتها البنيوية إلى أنظمة قوية تكفل السلم الأهلي ولو على حساب الحريات العامة.رغم سوداوية الوضع ومبررات القلق البديهية، لا بد من الإقرار بأن ديناميكية التحول الراهنة ترمز في ما وراء الاضطراب السياسي إلى حيوية الحقل السياسي والوقوف ضد استفراد أي قوة أيديولوجية أو اتجاه عقدي أو فكري بمركز القرار والفاعلية رغم نتائج المعادلة الانتخابية.والنتيجة البارزة هنا هي أن واقع التعددية والتنوع أصبح حقيقة راسخة، ولم يعد من الممكن الرجوع للأنظمة الأحادية، على الرغم من التخوفات السائدة بنجاح السيناريو الإيراني في الديمقراطيات العربية الجديدة.كما قد أصبح من الجلي أن المؤسسة العسكرية التي شكّلت العمود الفقري للنظام السياسي في الجمهوريات العربية المعاصرة غدت خارج اللعبة السياسية، وإن كانت تعاني من مصاعب جمة في أداء دور الحكم والحارس المحايد للحالة السياسية في تصاعد حدتها وتفاقم تجاذباتها.ذكرت هذه الحقيقة لدبلوماسي أوروبي رفيع عندما صارحني بتخوف بعض مراكز الرأي الغربية من عودة الجيش للساحة السياسية في حال تردي الأوضاع الأمنية واندلاع الفوضى في بعض البلدان التي تشهد أزمات داخلية عويصة .لقد بينت لمحاوري أن المؤسسة العسكرية أصبحت في حالة انفصام حقيقي مع الحقل السياسي لأسباب عديدة من بينها ما يعود لغياب التركيبة الأيديولوجية الواصلة، ومنها الطابع المهني التخصصي للأجهزة العسكرية التي اقتضتها في العقود الأخيرة طبيعة التحديات الاستراتيجية الإقليمية والدولية وفلسفة العمل العسكري نفسه.صحيح أن شبح الاضطراب السياسي قائم بقوة في العديد من الساحات العربية، لكن إذا استثنينا الحالة السورية بخصوصياتها المعروفة، لا نجد أياً من بلدان "الربيع العربي" الأخرى مرشحة لمشهد الفتنة الأهلية، على الرغم من حدة الصراع السياسي وخروجه إلى حد العنف أحياناً.في مقابل القراءة المتشائمة السائدة لتجربة "الربيع العربي"، نقرأ تحليلات مغايرة تستند لمنطق المقارنة التاأريخية مع الثورات الديمقراطية الكبرى التي عرفها العالم، بدءاً من الثورة الفرنسية التي لم تؤت أكلها، إلا بعد قرن ونصف القرن من الاضطراب والعنف.وبطبيعة الأمر ليست تجربة الثورة الفرنسية بالأصل الذي يقاس عليه عربياً على الرغم من حالة الانشداد العارم لها منذ بدايات الفكر الإصلاحي العربي في القرن التاسع عشر. يتناسى كتاب الفكر السياسي العربي أن الثورة الفرنسية كانت تجربة يتيمة، بل "شاذة" في حركية التحول السياسي في أوروبا، على الرغم من الزخم الأيديولوجي والرمزي الكثيف الذي خلفته في الفكر الغربي والإنساني عموماً.ودون الخوض في أسباب وخلفيات "الخصوصية الفرنسية"، أكتفي بالإشارة إلى ما كان قد بينه مؤرخو الثورة الفرنسية من "دي توكتفيل" في القرن التاسع عشر إلى "فرانسوا فيري" من ارتباط الثورة بمسار التحول الداخلي في فرنسا في القرنين السابع عشر والثامن عشر الذي عرف انتكاسة قوية في خط الإصلاح السياسي، على عكس التجربة المتدرجة والناجحة في بريطانيا على طول أربعة قرون متواصلة من الإصلاح الديمقراطي. وغني عن البيان أن الفكر الثوري الفرنسي امتاح مقولاته المؤسسة من الفلسفة الليبرالية الإنجليزية ومن المنظومة العلمية التجريبية المرتبطة بها.لا تندرج «الثورات العربية» الراهنة في مسار التحول الثوري في أوروبا في القرن الثامن عشر، ولا تصطدم بنفس المعوقات التي تمحورت أو انها حول ما تنبه إليه "كانط" من تعارض الأشكال السياسية الإمبراطورية مع كوسمبولتية الفكرة الليبرالية. كما أننا لا نميل إلى تحميل العامل الديني والفكري أي دور في أزمة الانتقال السياسي التي تشهدها الديمقراطيات العربية، فخلف حالة الصعود الانتخابي لتيارات الإسلام السياسي مظاهر جلية لتصدع المرجعية الإسلامية وتآكل ذاتي للمشروع برمته، الذي يعاني من صدام حاد مرشح للتفاقم بين اتجاهين متمايزين: ليبرالي محافظ ما يزال أقلية، وشعبوي انكفائي يستند لتصور انتمائي وخصوصي ضيق للدين كهوية شمولية مغلقة.إن السبب الرئيس لأزمة التحول الراهنة تعود حسب اعتقادنا إلى طبيعة الأنظمة الديمقراطية المستندة للشرعية التمثيلية القانونية، التي هي مرجعية هشة اجتماعياً ووجودياً، ما دامت تستند لمحض التوافق والنقاش العمومي، في غياب سقف انتماء عضوي مسبق.لقد عرف الفكر السياسي الغربي منذ روسو نقداً متصلًا للنظام الديمقراطي- التمثيلي من حيث كونه ضعيف القاعدة المجتمعية لاستناده لمجموعة تعاقدية دستورية بدل الكيان العضوي، أي الوحدة الروحية للجسم الاجتماعي، التي ميزت الديمقراطية الأثينية القديمة وتشبثت بها الرومانسية الأوروبية في القرن التاسع عشر والنزعات القومية الراديكالية في بدايات ومنتصف القرن المنصرم.ومع أن الفكر الليبرالي الأوروبي حرص دوماً على سد ثغرات الشرعية الإجرائية بتأسيس المرجعية السياسية على المعيارية القانونية، أو على تصور نظري كلي للعدالة، إلا أن هذا المسلك يفضي في نهاية المطاف - كما بين كارل شميت - إلى تمويه الفعل السياسي بصفته نشاطاً سيادياً يعكس الطبيعة الصراعية للعلاقات الاجتماعية.تعيش بلدان "الربيع العربي" حالياً صدمة اللحظة الليبرالية التي تضع المواطن الحر أمام مسؤوليته في صياغة نظامه المجتمعي دون سلطة موجهة أو إطار وصاية، مما ينتج عنه ما عبر عنه "هيغل" بآلام الفطام" التي تواكب استقلال الذات وتميزها، ومن الطبيعي أن تنعكس هذه الآلام اضطراباً داخلياً وتأزماً سياسياً مؤقتاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق