السبت، 16 مارس 2013

خبزٌ وورود


قد يكون التأريخُ ماكراً أحياناً ، حين يختار للرَّكبِ المُتأخِّر المتعثِّر أن يسير وفق ما خطَّـتْهُ للمَسيرِ من مسالكَ ودروبٍ، وتسمياتٍ عَجَلاتُ المتـوَّجين دوماً. لكن الجغرافية بدورها ليست منصفةً، ولا يمكنُ أنْ نَسِمها بالحياد حين تضعُـنا في المنتصَف بين انتماءٍ ندَّعيه إلى وطن أكبر يمتد من الماء إلى الماء، وحُلمٍ نرتضيه لنا من أراضٍ وطاقات وإنجازاتٍ ليستْ لنا، لكننا نجاوِرها يوماً بيوم ونجاريها سنةً تلو أخرى.
حين رفعت آلافُ من العاملات الأميركيات المتظاهرات في شوارع نيويورك قطعَ الخبز وباقات الورود في الثامن من مارس 1908، لـيُطالبن بتقليص ساعات العمل، ومنع تشغيل الأطفال ورفض التمييز بين الرجل والمرأة في العمل وفي الحياة المدنية عموماً، لم يكن حرصهن على تخليد ذكرى 129 عاملة اللواتي قضين سنة 1857 نضالاً في معركة جائرة ضد رأسمالية التمييز الجنسي، كما لم يكن حرصهن على سنِّ تاريخ للاحتفاء بإنجازات المرأة في المنتظم الدولي، بل كان النضالُ فعلَ حياةٍ وكفى.
اليوم مثل الأمس نقف بضمير المؤنث، وضمير المذكر أمام الاحتفاء ونتساءل بخبث متعدِّد لا يُخفي سوء نواياه، وإن اختلفت الأزياء التي نرتديها أمام الموضوع ذاتِه: ماذا عن باقي أيام السنة؟.
لا يعنيني أن يكون الاحتفاء بالمرأة مبدعة ً أو كاتبةً أو مفكِّرةً أو ... في يومها "المَجيد" موْضعَ رفض، أو موضع قَـبول. لكن يَسوؤني بشكل كبير الانسياقُ خلف سرد ما تمَّ تحقيقه في مشهدنا من بطولةِ مكتسباتٍ يُعْتَـدُّ بها ضمن زُمَر "الريادة"، ويُحتَكَمُ فيها دون وعي إلى فكر "الهِبات و العطايا" وما تجود به فُتوحات "الكوطا". وهي في الغالب مكتسباتٌ أو تمثـيليات تُحتَسبُ إنجازاً عالميّـاً في الواجهة، لكنها في واقِع الحال مجرَّد كَـمٍّ فارغٍ يثَـبِّتُ حضوراً أجوف يراكِمُ في المدى البعيد النفورَ من كل وَسْمٍ رسميٍّ بالمؤنَّث.
يغيظني كثيراً هذا التنميط الاحتفالي الذي يتخذُّ لكثرة التكرار شكل موسِمٍ تُعـقَدُ مراسيمُه بكثير من التصنُّع، وتطوى الملفاتُ سريعاً في اليوم الموالي، وكأن منتهى الآمال قد حقَّقَـته الخطَبُ "العصماء". ثامن مارس يومٌ كسائر الأيام لا تدرك عطاياه الأيادي الخشنة، ولا تعي هبـاتِه الزهورُ البرِيَّة الكادِحة مُلتحِفةً بسمرة الشمس، وحُمرة الصقيع هناك في أعالي الجبال المعزولة ، وتعاريج الحقول العجفاء. إنّ صورة المرأة في منظومة المجتمع ومن ثم موقعها ومكانتها لا يمكن أن تصطنِعَ بديلاً لها كلُّ القوانين والمواثيق والمراسيم؛ لأن مناط التغيير مرتبِط بخَلْق تمثُّلات جديدة لا تفرضها سلطةٌ عليا، بل تُـنتِجها التربيةُ والتنشئة الاجتماعيتان، لذلك فالسبيل هو التعليم وإصلاح منظومته بنزاهة وإبداع، وليس الاكتفاء بمحو الأمية وابتداع أشكال ذلك المحو المختلفة في جميع أسلاك الدراسة.
الانتماء إلى النُّخبة المفَـكِّرة لم يكن يوماً امتيازاً تمَدُّ له البُسط الحُمر. إنّ الفِكرَ يقتضي منذ بدء السؤال مخاتَلةَ النرجسية بكثير من الفردانية. لا يمكنني الفصل هنا بين "أنا" الكاتبة و "أنا" الذات المفكِّرة، فـ"أنْ أكونَ" فِعْـلُ وجودٍ لا يتجزَّأ، لذلك قد تحاصرنا سطوة التفكير حتى حين نرغب بممارسة الحياة ببراءة البسطاء وسذاجة الأطفال.
إن الاحتفاء بالكاتبة والأديبة الذي تحدَّدُ مدَّةُ صلاحيته في أربع وعشرين ساعة موسِمُ زهور "بلاستيكية" للأسف لا عطر لها.
يظلُّ الخُبزُ هاجسَ عيشهـنَ هنَّ في "أنفكو" ومثيلاتها من الرموز في كل خارطتنا الممتدّة، لتَـنزوي الورودُ الحقيقية عن منصَّات الاحتفاء، أو لِـتستسلِم لزهو احتفاء يشبِه الحُلمَ بحياةٍ خالِدة خارجَ قُـبور المزهريات المُبهِرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق