الاثنين، 18 مارس 2013

هل كان جاك دريدا فيلسوفا فعلا ؟!!..


مقالة الكاتب مجدي ممدوح عن دريدا والمنشورة في " قاب قوسين" تثير بعض الشجن، لا سيما بما يتعلق بمسألتين هامتين: مركزية الذات في النقد الاجتماع الأدبي، ودور تداخل الحضارات في نشر الأفكار.
لنبدأ بالنقطة الثانية: لا نستطيع القول إن فرنسا بحاجة لأميركا لتنتشر أدبيا في العالم، ومجال الحرية الواسع الذي توفره فرنسا منذ انتصار الثورة الفرنسية وسقوط الباستيل، استطاع ان يجذب الأدباء والمفكرين الذين عانوا من عنت وعسف العقل الأنغلو ساكسوني المحافظ والبارد.
بنظرة سريعة الى المجددين في الإدب الإنجليزي يتبين لنا كم يدينون لفرنسا. فالروائي د. هـ . لورنس مؤلف "عشيق الليدي شاترلي"، والذي فصلته جامعة نوتنغهام من صفوفها، ولاحقه القضاء بتهمة الإساءة للأخلاق العامة، عاش ردحا من حياته في فرنسا. وهذا هو شأن سومرست موم وألان سيليتو. وقل الشيء نفسه عن بيكيت الذي كتب بالفرنسية، ثم ترجمت أعماله للغته الأم الإنجليزية.
ولا داعي للقول إن الكاتب الإنجليزي الذي لم ينطلق من أوروبا هو كاتب له أسلوب روتيني بطيء.
لم يدخل الأدب الإنجليزي في دورة الحياة والإنتاج إلا بعد سقوط جدار برلين وانتشار ظاهرة الأدبيات العابرة للأجناس. بتعبير آخر بعد ظهور أوروبا الموحدة ككيان اقتصادي له أسلوب تعبير واحد.
ولقد اجتذبت فرنسا أيضا أهم الأصوات الأميركية الممنوعة في العالم الجديد، وفي مقدمة هؤلاء هنري ميلر الروائي الذي اكتشف السيرورة الذهنية للاشعور المجتمع من خلال خبايا حياته الشخصية، وعلاقاته. لولا التسامح الذي وفرته له فرنسا ربما تحول لصوت مجهول.
ألا يعاني تراث المركيز دو ساد من الإنكار لأسباب فوق أدبية وهي من أثر النظرة لمعنى الحرية وما ترتب على ذلك من مبالغات وإضافات أساءت له.. كأنه هتلر وصاحب توجه نازي مخالف لشروط الحياة بمقاييس البشر.
بقليل من الاستطراد نستطيع أن نلاحظ كيف أن العقل اللاتيني هو حاضن مثالي لنشاط المخيلة، بالمقارنة مع العقل الأنغلو ساكسوني التجريبي الذي يحترم القانون والأصول والتقاليد.
فالواقعية الجديدة في السينما ظاهرة أوروبية لاتينية انتشرت في إيطاليا وفرنسا بوقت واحد، وكانت تدعو للكشف عن مصادر الفساد والاستغلال بلغة عاطفية، فيها الكثير من الحب والشرف والرومنسيات وبصيغة معاصرة معدلة. بينما اكتفت المدرسة الأميركية، ومن ورائها البريطانية، بأفلام الحركة والمطاردات والتبذير...وكان النقد الأدبي يتحرك بالتوازي مع الظواهر الأدبية الأساسية. فلا تمر على فرنسا عشر سنوات من غير ابتكار أدوات جديدة تعيد للنص وللتراث القيمة الغائبة، وتعمل على ربطه بحركة المجتمع. فالقراءة الجديدة هي ولادة ثانية للنص. وهذا ما نفهمه من تفسير دريدا لروسو في إطروحته عن تفكيك الدال، واستنتاج المعنى المتبدل و سلسلة الانزياحات.
أما بالنسبة للنقطة الأولى مركزية الذات، هناك في شخصية دريدا، وفي سيرة حياته، عدة إضافات جاءت من خارج مكوناته الثقافية.
فالشائع عنه أنه فيلسوف ورائد مدرسة التفكيك. والحقيقة أنه ناقد أدبي بسيط، وكاتب لمقالات باسلوب السانحة الأدبية الرشيقة التي تحمل الكثير من الآراء الشخصية ،ووجهات النظر الذاتية من غير منهج أكاديمي واضح. كان لدريدا أطروحة حول إلغاء مركزية العقل. لكنه لم يقدم منهجا لقراءة نظام المعرفة كما فعل فوكو، ولا أضاف دراسة بإطار محدد وواضح لتفسير اللاشعور وتمييزه عن أسباب الظلام في النشاط النفسي الصامت كما فعل لاكان. إن إهم أعماله هي مقالات جمعها عشوائيا، وتناول فيها مسائل شديدة التفاوت من قراءة هيغل للتاريخ والاستاطيقا وحتى تفسير فوكو لمعنى الجنون، ومذهب القسوة والعنف في مسرح أنطونين أرتو. وهذا كله بشكل ميتا نص. بمعنى أنه كان يبني على ما هو مُنتج فقط. ولم يخرج عن إطار بارت بخصوص موت المؤلف. وباعتبار إنه يساري ليبرالي اقترب كثيرا من رؤية هابرماز لخطاب الحداثة، وتبنى دور العقل الأداتي التواصلي. واعتبر أن نشاط اللغة عاطفة ينتجها الواقع لأغراض تداول الأفكار والمعاني ،وليس الأصوات. أعتقد أن المحاضرة التي ألقاها في ذكرى وفاة جويس بعنوان ( هنا نقول لجويس: نعم) أوضح مثال على ذلك. فقد أكد فيها أن كلمة ( نعم - yes ) هي معنى يتألف من ثلاث طبقات: مدلول مفتوح على عدة احتمالات، ودال يتألف من حروف، وصوت يرتبط بنغمة هي بمثابة نقطة أو صفر لو استعملنا لغة ياكوبسون. وهذا يعني أن المربع رقم واحد، و المحدد للمعنى، هو نبرة الصوت لا الصوت بحد ذاته. فكلمة نعم أحيانا تدل على النفي أو الاستنكار أو الاستفهام، علاوة على معناها الأصلي وهو الموافقة. لذلك كانت نصيحته لمن درس جويس بواسطة المسح الإلكتروني، الذي يقرأ الغرافيمات فقط ( أو شكل الحروف المطبوعة ) أن يربط ذلك بالسياق العام للنص، وعلى وجه الخصوص علامات الترقيم..
أخيرا، لم يهاجر دريدا إلى أميركا، ولكنه قام بالحج إليها مثل كل المفكرين الفرنسيين الآخرين. وعلى رأس هؤلاء غريمه فوكو، الذي ذهب إلى فرنسا للبحث العلمي، وعاد منها وفي جعبته مشروعه الأخير عن الجنسانية، وهو أضعف أعماله وأقربها للصياغة الانشائية، ويغلب عليه خطاب مباشر بعيد عن تأملاته الديكارتية الأصلية التي صنعت منه ظاهرة.
كان السفر الى أميركا يشبه هجرة المبشرين برسالة إنسانية، وهم في لحظة ضعف. وكل رموز ما بعد الحداثة لم يتوجهوا الى العالم الجديد، إلا بعد دخول حقبة تفكيك خطاب الاستعمار على الخط. فقد غادر دريدا وبعده فوكو الى أميركا لحظة وصول فرانتز فانون لخشبة المسرح في فرنسا، وربط الخطاب الأدبي بقيمة العمل وبالجذور التاريخية لنشوء الطبقات والأعراق وتمايز الحضارات.
كان هذا الإجراء نوعا من البحث عن خلاص من خطر المحو والفناء. بل قل من خطر الصمت الذي يشبه بضرره الدخول في مرحلة السبات أو الغيبوبة. يتوازى ذلك مع أسلمة روجيه غارودي ، واتهامه من رفاقه البروليتاريين أنه تحريفي ومرتد.
من لم يذهب لأميركا، أو يخرج من مساره، مثل جيل دولوز مؤلف فلسفة الصورة، فقد اضطر لأن ينتحر، وأن يضع بيده نهاية لحياة اقتربت من الإفلاس. شأنه في ذلك شأن همنغواي الذي اختار الموت على الركود والكساد الابداعي والعقلي.
كانت نهايات المشهد الفكري في فرنسا محكومة بمنطق كامو.. من ينتهي دوره في الحياة إما أن ينتحر ذهنيا باللجوء لدائرة عقل داعم من خارج البنية المنتجة، أو أن ينفذ كلمة القدر المحتوم، ويختصر حياته المتوقفة أصلا عن التطور والحركة ويقدم على الانتحار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق