الخميس، 8 يونيو 2017
لنتحسس في الصوم معنى التوبة والاستغفار
الصّوم الرّوحيّ
ـ تذكَّر جوع القيامة وعطشه
وعلى ضوء هذا، يمكن أن نتصوَّر أنَّ الصَّوم على عدَّة أقسام، فهناك الصَّوم الروحيّ الّذي يتحسَّس الإنسان فيه المعاني الرّوحيَّة في نفسه عندما يصوم، وهذا ما أكَّده رسول الله(ص) في خطبته الَّتي استقبل بها شهر رمضان في آخر جمعةٍ من شعبان، حيث أكَّد على الصَّائمين أن يذكروا بجوعهم وعطشهم جوع يوم القيامة وعطشه، ليتذكَّر الصَّائم بذلك أن ليس لديه فرصة يوم القيامة ليشبع أو يرتوي قبل أن ينتهي الحساب، فإذا كان الحساب طويلاً، فإنَّ جوعه سوف يكون طويلاً، وهكذا في عطشه، ومن الطّبيعيّ أنَّ الإنسان إذا عاش في نفسه حضور يوم القيامة، عاش الإحساس بخطورة المصير هناك، حيث يكون بين جنَّة ونار.
ـ التَّوبة من الذّنوب
وهكذا يريد الله من الصَّائم ما حدَّثنا به رسول الله(ص): "وتوبوا إلى الله من ذنوبكم ـ أن يستحضر الإنسان في صومه التَّوبة إلى الله، بحيث يشعر بخطورة ما قام به تجاه ربّه، ليتذكَّر ما ارتكبه من أخطاءٍ في الماضي، في الكبير من أعماله وفي الصَّغير منها، والله فتح للإنسان باب التَّوبة، ولقد علَّمنا الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع) أن نتحدَّث مع الله عن طبيعة معصيتنا، الَّتي لم تكن تمرّداً عليه: "إلهي، لم أعصك ـ حين عصيتك ـ وأنا بربوبيَّتك جاحد، ولا بعقوبتك متعرّض، ولا بأمرك مستخفّ، ولا بوعيدك متهاون، ولكن خطيئة عرضت ـ شيء طارئ في حياتي ـ وسوَّلت لي نفسي، وغلبني هواي، وأعانني عليها شقوتي، وغرّني سترك المرخى عليّ، فقد عصيتك وخالفتك بجهدي، فالآن من عذابك من يستنقذني، ومن أيدي الخصماء غداً من يخلّصني، وبحبل من أتَّصل إن أنت قطعت حبلك عنّي"، أن يتوب الإنسان من صغائر ذنوبه وكبائرها ـ وارفعوا إليه أيديكم بالدّعاء في أوقات صلواتكم". حاول أن تدعو الله قبل الصَّلاة وفي أثنائها، في ركوعك وسجودك وقنوتك، لأنَّ للزّمن ميزةً في عالم استجابة الدّعاء، فعلينا أن نرفع أيدينا بالدّعاء، وقد أراد الله لنا أن ندعوه في كلِّ ما أهمّنا، }وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ{، }وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ{. ولذلك، فإنَّ علينا في أوقات صلواتنا وأوقات صيامنا، أن ننفتح على ربّنا، ونفتح قلوبنا بين يديه، ليطَّلع سبحانه عليها، ويرى صدق التَّوبة، }وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ{، وتوبوا إلى الله في أوقات صلواتكم، فإنَّها أفضل السَّاعات، ينظر الله ـ عزَّ وجلَّ ـ فيها بالرَّحمة إلى عباده، يجيبهم إذا ناجوه، ويلبِّيهم إذا نادوه، ويعطيهم إذا سألوه، ويستجيب لهم إذا دعوه".
ـ الاستغفار لله
ثمَّ يؤكّد النّبيّ (ص) ـ حسب الرّواية ـ: "أيّها النّاس، إنَّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ـ كما إذا رهنت مالك عند شخصٍ لقاء دَيْن له عليك، ألا تحاول سداده لتحرِّر مالك؟ }كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ{، كيف نفكّ رهن أنفسنا؟ ففكِّوها باستغفاركم، لا تتركوا الاستغفار لله عمَّا أسلفتم، في أيِّ وقتٍ من الأوقات، في البيت، والسّيّارة، وفي المحلّ.. ـ وظهوركم ثقيلة بأوزاركم، فخفِّفوا عنها بطول سجودكم، واعلموا أنّ الله تعالى ذكره أقسم بعزّته أن لا يعذِّب المصلّين والسَّاجدين، وأن لا يروِّعهم بالنَّار يوم يقوم النَّاس لربِّ العالمين...". وهكذا، نجد كيف يخسر الإنسان الَّذي لا يصلّي ولا يسجد، الكثير من رحمة ربّه ولطفه وأمنه له بالنَّجاة من النّار.
الصّوم الاجتماعيّـ إعطاء الصَّدقةإنَّ الله يريد منَّا أن نتحسَّس في الصَّوم معاني التّوبة والاستغفار، والتخفّف من كلّ الأوزار، وأن نستحضر معاني يوم القيامة، كما يريدنا سبحانه أن نصوم الصَّوم الاجتماعيّ، بأن نتحمَّل مسؤوليَّة الفئات الفقيرة والمحرومة في مجتمعنا، كلٌّ بحسب إمكاناته وطاقاته، "وتصدَّقوا على فقرائكم ومساكينكم"، بشكل إفراديّ أو اجتماعيّ، حيث جعل الله الصّدقة تطيل العمر، وتطرد المرض، وتخفّف البلاء، وقد أراد للإنسان أن يتخفَّف في هذا الشَّهر الشَّريف من كلِّ حقوق الله وحقوق النَّاس المستحقَّة عليه، ولذلك، نجد أنَّ الإمام زين العابدين(ع) في شهر رمضان، يدعو الله إلى أن يطهِّر النّفوس بإخراج الزكوات، فمن حاول الشَّيطان أن يسيطر عليه، من خلال وعده له بالفقر إذا أخرج حقوقه الواجبة عليه، فإنَّ عليه أن يتمرّد على الشّيطان وينفتح على الله، ليطهِّر نفسه بإخراج كلِّ ما أراد الله له أن يخرجه من خمسٍ أو زكاةٍ أو غير ذلك. }الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ...{، ويقول لك إنَّ لك عيالاً وتتحمَّل مسؤوليّات، وعليك أن تحسب حساب المستقبل ، لا تخرج خمسك أو زكاتك، }وَاللهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً{، فكّر مَنِ الَّذي رزقك هذا المال؟ إنَّ الَّذي رزقك هذا المال جعل للفقراء حصّةً فيه، فعليك أن لا تبخس حقوق الفقراء فتحبسها عنهم، وعليك أن تثق أنَّ الَّذي رزقك بالأمس سوف يرزقك غداً، }وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ{.ـ صلة الرّحموهكذا ورد عندنا في هذا الجانب الاجتماعيّ أيضاً: "وصلوا أرحامكم"، أن تعملوا على صلة أرحامكم، حتى لو كان أرحامكم من القاطعين لكم، لأنَّ الله يريد للإنسان أن يعطي حتى لو لم يأخذ، وقد ورد أيضاً في هذه الخطبة نفسها: "ومن وصل فيه رحمه، وصله الله برحمته يوم يلقاه، ومن قطع فيه رحمه، قطع الله رحمته عنه يوم يلقاه".وهكذا أيّها الأحبَّة، نحتاج إلى أن نتمرَّد على نفوسنا الأمَّارة بالسّوء، الَّتي تحاول أن تجعلنا نقاطع أرحامنا، أو من أمر الله أن يوصل.ـ التّحنّن على الأيتام"وتحنَّنوا على أيتام النّاس يُتحنّن على أيتامكم"، فعلينا أن نشعر بالأيتام الَّذين هم أمانة الله لدى المسلمين كلِّهم، لأنهم فقدوا من يرعاهم ومن يكفلهم، ولذلك، ورد في الحديث عن رسول الله(ص): "أنا وكافل اليتيم في الجنّة"، بحيث يكون الكافل مع الرَّسول(ص) في الجنَّة.وفي ضوء هذا، علينا أن نعمل على كفالة الأيتام في بيوتهم، وفي المبرّات الَّتي ترعاهم، لأنَّ ذلك يحتاج إلى تكافل اجتماعيّ وتعاون اجتماعيّ، حتى يمكن لمؤسَّسات الأيتام، في أيِّ موقع كانت، وإلى أيّ جهة انتمت، أن تعمل على رعايتهم، بما يجعلهم يواجهون الحياة في المستقبل الكبير.ـ توقير الكبار ورحمة الصّغار"ووقّروا كباركم، وارحموا صغاركم"، إنَّ الله يريد للجيل الجديد أن يوقّر الجيل القديم بكلِّ وسائل الاحترام، وبكلِّ وسائل الرّعاية، كما يريد للجيل القديم أن يرحم الجيل الصَّغير في قيمة تجربته، وفي الكثير من نقاط ضعفه هنا وهناك.ـ تحسين الخلقوهكذا، يريدنا الله أن نعيش الصَّوم الاجتماعيّ في حسن الأخلاق، "من حسّن منكم في هذا الشّهر خلقه، كان له جوازٌ على الصّراط يوم تزلّ فيه الأقدام". ألا نتطلَّب جوازاً في كلّ سفرٍ يمكن أن نلاقي فيه المشقَّة والصّعوبات؟! إنّك إذا حسَّنت أخلاقك مع أهلك وجيرانك وأرحامك وأصدقائك والنّاس من حولك، فإنَّ حسن الأخلاق يتحوَّل إلى جوازٍ تتحرَّك فيه على الصِّراط، فلا تزلّ قدمك هناك. وهكذا، "ومن خفَّف في هذا الشَّهر عمّا ملكت يمينه ـ عمّن كان تحت سلطته، من العمّال والموظَّفين ومن أهله ـ خفَّف الله عليه حسابه".ـ كفّ الشّرّوعليك أن تكفَّ شرَّك عن النّاس دائماً، ولكن يتعاظم هذا المعنى الاجتماعيّ في كفّ شرّك عن النّاس في هذا الشَّهر: "ومن كفَّ فيه شرّه، كفَّ الله عنه غضبه يوم يلقاه"، فالله يريدنا في هذا الشَّهر أن نعيش الصَّوم الاجتماعيّ الّذي يجعل منّا مؤمنين صالحين نعيش إنسانيَّتنا في كلِّ معانيها، في داخل أنفسنا وفي خارجها، قال الإمام الصَّادق(ع): "ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا"، وقال: "وسمع رسول الله(ص) امرأةً تسبّ جاريةً لها ـ ونحن قومٌ نسبّ بعضنا بعضاً في الكبير والصَّغير، بمناسبة وبغير مناسبة ـ وهي صائمة، فدعا رسول الله(ص) بطعام، فقال لها: كلي ـ ولم يكن المقصود من الرّسول أن يجعلها تأكل، ولكن ليعطيها الموعظة بأسلوبٍ صالح ـ فقالت: إنّي صائمة، قال(ص): كيف تكونين صائمةً وقد سببت جاريتك"ـ إنَّ الصَّوم ليس بالامتناع عن الطَّعام والشَّراب، فالإنسان الَّذي يسبُّ إنساناً آخر وهو صائم، فكأنَّه أفطر في صومه، لأنَّ هناك إفطاراً على قسمين، فهناك إفطار مادّيّ، بأن لا يأكل ولا يشرب، وهناك إفطار معنويّ، كأن تسبَّ إنساناً آخر أو تؤذيه أو تضربه، فأنت بذلك مفطر روحيّاً، وإن كنت صائماً مادّيّاً.الصَّوم الأخلاقيّوهكذا، أيّها الأحبَّة، هناك الصَّوم الأخلاقيّ، فالإنسان عليه أن يصوم، بحيث يجعل أخلاقه في خطِّ التّقوى، "وغضّوا عمَّا لا يحلّ النّظر إليه أبصاركم، وعمَّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم". وعن فاطمة الزّهراء(ع)، أنها قالت: "ما يصنع الصَّائم بصيامه إذا لم يصن لسانه وسمعه وبصره وجوارحه"، فالصَّوم هو أن تصوم حواسّك عن كلِّ الخطوط السيِّئة في الأخلاق.وهكذا، ورد عن الإمام جعفر الصَّادق(ع)، "ليس الصِّيام من الطَّعام والشَّراب أن لا يأكل الإنسان ولا يشرب فقط، ولكن إذا صمت، فليصم سمعك وبصرك ولسانك وبطنك وفرجك، واحفظ يدك وفرجك، وأكثر من السّقوط إلا من خير، وارفق بخادمك". هذا هو الصَّوم في معناه الإنسانيّ الأخلاقيّ، بحيث يعيش الإنسان إنسانيَّته في القيم الأخلاقيَّة والرّوحيَّة المتَّصلة بحياته أو بحياة الآخرين.الصَّوم السياسيّوهكذا نلتقي بالصَّوم السياسيّ، وذلك بأن تصوم عن كلِّ تأييدٍ ودعمٍ ومساعدةٍ للظّالمين وللمستكبرين في كلمةٍ أو فعلٍ أو موقف، لأنَّ الله تعالى يقول: }وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ{، وقد ورد في الحديث بأنَّ الظّالم، والرّاضي بالظّلم، والمعين له، شركاء ثلاثتهم، "من عذر ظالماً بظلمه، سلَّط الله عليه من يظلمه، فإن دعا لم يُستجَب له ولم يأجره على ظلامته".إنَّنا في هذا الشَّهر الشَّريف، نعيش بين يدي الله وفي ضيافته وفي آفاق رحمته، فعلينا أن نعمل على أن ننمّي إيماننا وأخلاقنا وروحيّاتنا والتزامنا في كلِّ شيء، لأنَّ القضيَّة هي أن يتحرَّك الإنسان بصومه، ليكون الإنسان الَّذي ينطلق من أجل أن يحصل على رضا الله في كلِّ شيء، وحتى لا يكون كما ورد في الحديث: "كم من صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش"، }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
رسالة أحدث
رسالة أقدم
الصفحة الرئيسية
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق