صبري الناصري
إنه لمن الأعراف الإنسانية النبيلة تعيين يوم عالمي لقضايا البشرية المهمة يجتمع فيه المسؤولون وصنّاع القرار وأهل الحل والعقد لمناقشة تلك القضايا، فللعمال يوم، وللمرأة يوم، ولمكافحة الإيدز آخر، ولمكافحة التدخين يوم، هو هذا الذي نجتمع فيه، والموضوع الذي نختاره هو (الشريعة والتدخين) حيث يتساءل الكثيرون عن حكم التدخين في الشريعة ويستغرب الكثيرون من عدم اتخاذ الفقهاء موقفاً حازماً ضد هذه الظاهرة السيئة، ولتحديد موقف الشريعة من التدخين نقول: إن معرفة الحكم الشرعي لأي موضوع - كالتدخين - يكون بأحد صيغ ثلاث: الأولى: أن يرد نص صريح في حكم ذلك الموضوع بعنوانه الخاص كحرمة الزنا وحلّية البيع ووجوب الصلاة، حيث وردت نصوص مباشرة فيها، الثانية: أن يرد نص بالحكم على الموضوع بعنوانه العام ويكون هذا الموضوع الخاص أحد مصاديقه وتطبيقاته كحرمة كل مسكر مهما قلّ مقداره مادام الكثير منه حرام، ومنه نعرف حرمة تناول البيرة لانطباق عنوان المسكر عليها رغم عدم وجود نص بعنوانها، الثالثة: أن يطرأ على الموضوع عنوان ثانوي له حكم معين فيشمل ذلك الموضوع بواسطة هذا العنوان عليه كالتصرف في مال الغير بدون إذنه فهو محرم لكن إذا توقف إنقاذه من حريق على التصرف في ملكه بدون إذنه فإنه يصبح واجباً لوجوب إنقاذ الإنسان من الهلاك، وحينما نريد معرفة حكم التدخين في الشريعة فإننا لا نجد حكماً بالصيغة الأولى فينحصر البحث في الصيغتين الأخريين وحينئذٍ سنجد على صعيد الصيغة الثانية الحكم بالحلّية لأن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يثبت الحظر والمنع والمفروض عدم ثبوت مثله، أما على صعيد الصيغة الثالثة فإن هناك عدة عناوين يمكن أن تكون منشأً للمنع والقول بالحرمة، كالإضرار بالنفس وتلويث البيئة والخسائر الاقتصادية الفادحة، وقد تكفّل كمٌ هائل من الدراسات والإحصائيات بيان حجم هذه الأضرار والخسائر، وأضيف إليها النقص الأخلاقي على صعيد جهاد النفس الذي سمّاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الجهاد الأكبر، فإن غاية ما يطمح إليه الأخلاقيون والعرفانيون المشتغلون بتهذيب النفس وتطهير القلب هو تحرير الإنسان من سلطة وطاعة أي شيء سوى الله تعالى والتخلّص من التعلق بأي شيء غيره تبارك وتعالى، فمن هذه الناحية يكون المدخن أسيراً لسيكارته لا يستطيع مقاومة هذه الرغبة الجامحة، وهذا نقص وتعويق في طريق الكمال، وأتذكر أننا حينما سألنا أستاذنا الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) أنك بنعمة الله متخلص من داء التدخين قال (قدس سره): أما يكفيني أني عبدٌ للشاي حتى أكون عبداً للسيكارة!!، وكان مواظباً على شرب الشاي، ومحل الشاهد أن هذه المخاطر الصحية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية إذا بلغت درجة تقنع الفقيه بالحرمة فإنه سيحرم التدخين بهذا العنوان الثانوي وإلاّ فلا، ومن هنا اختلفت فتاوى الفقهاء بسبب تفاوت قناعاتهم، ومما يجدر ذكره أن نتيجة الصيغتين الثانية والثالثة لو تعارضتا فإن المرجح هي الثالثة كما في المقام، وقد لا تحصل للفقيه القناعة بالتحريم العام للتدخين وإنما يحرّمه في حالات خاصة، كما لو كان الإنسان مصاباً بحالة يضرّه فيها التدخين ضرراً بالغاً ومباشراً فإنه يحرم على هذا الشخص خاصة، ومن الحالات الخاصة للتحريم ما أفتيت به عام 2002 بعد أحداث الحادي عشر من أيلول حيث أعلن عدد من قادة الدول الغربية بصراحة وبوضوح الحرب الصليبية على الإسلام فحرّمت التعامل بالسكاير الأمريكية لأنها من موارد التمويل الضخمة للشركات التي تدعم الجهد المعادي للإسلام وقد استجاب للفتوى عدد كبير من تجّار السكاير بالجملة والمفرد مما أضرّ بهذه الشركات، ويمكن أن يتدرج الإنسان بتحدي نفسه بتقليل التدخين إلى خمس سيكارات في اليوم مثلا ثم إلى اثنين وهكذا، والتحدي يساعد على تفجير طاقة الصبر والصمود والمقاومة، وسيشعر عند الالتزام بلذة الانتصار ونشوته وهي من أعظم اللذائذ التي يستشعرها الإنسان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق