في واحدة من تقسيمات افلاطون للحاجات الإنسانية، يتحدث فيه عن ثلاثة أصناف: ما يطلب لذاته مثل السعادة، وما يطلب لذاته ولفوائده مثل العين، وما يطلب لفوائده فقط مثل العدالة، أي أن العدالة لا تطلب لذاتها لأنها غير مرغوبة لدى الكثير من الناس لأنها لا تعطيهم الأفضلية وبخاصة من يملكون السلطة والنفوذ، ولكنها ضرورية للآخرين لأنها تحقق الإنصاف المطلوب في أي تجمع بشري لضمان السلام، ومنذ نشوء الدول في أقدم عصور التاريخ كانت العدالة هي مفتاح البقاء لأية دولة، ولو تصفحنا الانهيارات التي حدثت وتحدث في حكومات الدول لوجدنا أن ثمة ظلماً وقع، واستئثاراً بالسلطة والثروات من الحاكمين أديا الى انفراط العقد الاجتماعي بين الشعوب والحكومات، والعقد الدائم بين الشعوب وحكامها يبدأ بالتصدع حين تبدأ الجماهير تشعر بغياب العدلة وضياع حقوقها التي يكفلها لها حق المواطنة والانتماء الى أي وطن من الأوطان.
ومع أن نقاشات فكرية غزيرة تناولت تعريف وبحث مفهوم العدالة وعلاقتها بمنظومة الأخلاق، إلا أن عصرنا الحديث توقف كثيراً عند مؤلف جون رولز العدالة كإنصاف ، وفيه يتناول المؤلف مفهوم العدالة بطريقة جديدة، فقد أعاد لمفهوم العدالة في السياسة الحديثة أهميته الواقعية، فقد غلبت على التفكير منذ القرن الثامن عشر ـ وقبله ـ النزعة الميتافيزيقية والتجريدية، لكن رولز أعاد طرح هذا المفهوم الحيوي بما يتناسب مع متغيرات عصرنا الحديث، وبرغم أن النقاش المطول في الكتاب يتناول المجتمع الغربي وحكوماته التي شهدت الحداثة بكل ما انطوت عليه من تطور وإشكاليات، إلا أن الكثير من المبادئ التي يعالجها يمكن النظر اليها على انها مبادئ كونية تصلح لأي نظام ديمقراطي في العالم مع اختلاف بعض التفاصيل المتعلقة بهذا البلد أو ذاك، لأن موضوعة العدالة مطلب إنساني لا تختلف عليه الثقافات ولا يصلح لشعب دون سواه، ويمكن إيراد الكثير من الاستشهادات التاريخية من تراثنا الإسلامي، فقد أدلى المفكرون الإسلاميون في العصور الوسطى بآرائهم حول أسس قيام الدول وأهمية العدالة، ولعل أطرف ما ورد من تعريف العدالة قول ابن مسكويه: إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي كما ينبغي، لهذا فإن نقاشات كهذه تنطوي على فائدة عظيمة للواقع السياسي في العراق، إذ أن التغيير الذي حدث كان لابد أن يخلخل البنى الاجتماعية والاقتصادية، وهذا من بديهيات التغييرات السياسية، فقد توزعت آليات صنع القرار بين قوى سياسية مختلفة، وأعيد توزيع الثروات وفقاً لمتطلبات المرحلة الجديدة، الأمر الذي يجعلنا ندرك أهمية وجود العدالة التي هي الضامن الحقيقي لعدم حدوث انتهاكات للحقوق وغياب للعدالة، وحدوث هذا يعني إساءة للعقد الاجتماعي وشعور الكثير من طبقات المجتمع بالغبن، فضلاً عن انتهاك لمبادئ الديمقراطية التي هي القاعدة التي يسعى الجميع في العراق الى إرسائها والتشبث بها، كخيار تاريخي يضع العراق ويدخله في مرحلة تاريخية لطالما حلم بها السياسيون والمثقفون، فضلاً عن سائر العراقيين الذين عانوا لعقود طويلة من حكم الاستبداد وغياب العدالة والمشاركة في صنع القرار، وهل يحتاج مبدأ العدالة الذي هو من مسلمات النظام الديمقراطي مع ما يترافق معه من حقوق مدنية وغيرها من مواصفات الدول المدنية الحديثة الى التأكيد على أهميته؟ وفي ظل أية حكومة تنتهج الديمقراطية يمكن حل الكثير من المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية اذا حافظ فرقاؤها السياسيون على جوهر العمل الديمقراطي وتوفير العدالة الحقيقية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق