هل مازال ممكناً حجب الحال الصحية للرجل الأول في بلد ما في عصر الثورة المعلوماتية والإعلام المفتوح والشفافية المطلقة؟ . . هذا السؤال ما عاد بحاجة إلى جهد كبير للإجابة عنه حتى في البلدان المغلقة مثل كوريا الشمالية التي ما استطاعت التكتم على مرض رئيسها الراحل كيم جونغ ايل، ومن قبل لم تتمكن كوبا من التستر طويلاً على الحال الصحية لقائد البلاد فيديل كاسترو في حين اختصر الرئيس الفنزويلي الراحل لتوه هوغو شافيز سيل الشائعات المتعلقة بمرضه وصارح جمهوره ومحبيه بحاله الصحية إلى اليوم السابق لوفاته، لا بل يمكن القول إنه نجح في تحويل مرضه إلى عنصر قوة لمصلحة تياره السياسي، ومن ثم في نجاح خليفته ماديرو الذي عينه بنفسه في الانتخابات التي تلت الوفاة .
معروف في هذا السياق أن الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران تمكن من إخفاء مرضه في الثمانينيات، وقبل اتساع الثورة المعلوماتية فضلاً عن شبكات التواصل الاجتماعي التي انتشرت كالفطر منذ مطلع الألفية الثالثة. ومعروف أيضاً أن التكتم كان سيد الموقف في الدول الشيوعية خلال الحرب الباردة، وبخاصة في الاتحاد السوفييتي حيث كان الناس يعلمون فجأة بوفاة الرقم الأول في البلاد بعد مرض طال التكتم عليه، بيد أن مثل هذه الممارسات تنتمي حقاً إلى عصر مضى.
والواضح أن بعض بلداننا العربية لا تريد مغادرة تقاليد التكتم على مرض رؤسائها، فالشعب العراقي لا يعرف الشيء الكثير عن الحال الصحية لرئيسه جلال الطالباني، والشعب الجزائري حائر في حال الرئيس بوتفليقة الصحية، حيث يقول رئيس الحكومة إنه يتابع الشؤون العامة في الجزائر، وإن حاله الصحية جيدة ومستقرة، ويؤكد وزراء كثر أقواله تباعاً في الأيام اللاحقة لـ11 آيار الحالي، وفي الوقت عينه يبادر وزير الإعلام الجزائري إلى مصادرة صحيفة محلية تحدثت عن عودة الرئيس بوتفليقة إلى الجزائر، الأمر الذي أضفى أجواء من الحيرة على هذا الموضوع وأثار موجة من الشائعات السيئة، فإن كان الرئيس بحالة صحية جيدة ويتابع الملفات العامة، فلا حاجة إلى التستر على حالته الجيدة، بل يتوجب إلقاء الضوء عليها وتظهيرها، أي عرضها في وسائل الإعلام لطمأنة الرأي العام، وتبديد الشائعات المضرة وإن لم تكن حاله جيدة، فمن الأولى عرض الوقائع أمام الرأي العام كما هي حتى لا تنتشر الشائعات المضرة نفسها عنه وعن السلطة، وتكبر إلى حد التشكيك في مستقبل الاستحقاق الرئاسي، فضلاً عن انتشار السيناريوهات الخيالية أو الوهمية عن المؤسسة العسكرية ومراكز القوى والمرشحين .. الخ.
وبخلاف الاعتقاد الخاطئ لا ينطوي عرض الحال الصحية للرئيس على إهانة أو تدخل في حياته الخاصة طالما أنه رئيس منتخب وليس معيناً أي أنه يدين للرأي العام الذي اختاره بأقصى درجات الشفافية. أضف إلى ذلك أن معرفة الحال الصحية للمسؤول الأول في السلطة تقطع الطريق على التلاعب بها وبالتالي استدراك انقلاب طبي على غرار انقلاب الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي على الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة أواسط ثمانينيات القرن الماضي.
وإذا كانت الشفافية هي الاختيار الأفضل للتعاطي مع مرض الرؤساء، فهل تؤثر طبياً في صحة الشخصية المعنية عبر ممارسة ضغوط معنوية وأخلاقية بطريقة مضرة بالعلاج و وسائله؟ قد تبدو هذه الحجة وجيهة إلى حد كبير لأنها تطال الناحية الأخلاقية والإنسانية للشخص المعني، ولعل التكتم يجوز هنا وفي حالة أخرى عندما تكون البلاد عرضة لمخاطر خارجية وتحتاج إلى ترتيبات خارج الأضواء لتوفير انتقال سليم للسلطة والحؤول دون إفادة الأعداء من المرحلة الانتقالية .
ومع ذلك تبقى الشفافية الحل الأمثل للتعاطي مع الملف الصحي للرئيس بوتفليقة، فالعارفون بهذا الملف يؤكدون أن الجلطة الدماغية التي أصابته ليست خطرة، لكنها ستؤدي بلا شك إلى قطع الطريق على توليه ولاية رئاسية رابعة، بل يمكن القول إن التكتم نفسه جعل هذا السيناريو الأبعد احتمالاً وفقد القسم الأهم مبرراته .
ولعل الشفافية لا تتناقض مع حجج المقربين من الرئيس أيضاً ممن يعتقدون أن له الحق في إبعاد مرضه الشخصي عن الرأي العام وعن السلطة معاً، وأنه غير مرشح لخلافة نفسه، فهي في هذه الحالة تبرر حجب المعلومات الصحية عن الرأي العام الذي سيخرج من التنافس على السلطة ويدخل إلى الفضاء المؤقت الفاصل بين السلطة الراحلة والسلطة الوافدة .. إذاً، إلى الشفافية أيها الجزائريون، فالتكتم الموروث من الثورة على الاستعمار ليس مفيداً في الاستعراض اليومي للسلطة الأولى في بلدكم المحوري جداً في شمالي إفريقيا على الأقل وفي العالم العربي عموماً.
مقالات للكاتب فيصل جلول
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق