مراحل التعليم المختلفة مثلها مثل مراحل عمر الإنسان سلسلة متصلة أولها يؤسس لثانيها ويؤثر فيه وثالثها يتأثر بثانيها وأولها ويتأثر بهما ، وهكذا دواليك . ولو وعي الإنسان بهذا الناموس الإلهي حرص في إقامة الأبنية المختلفة علي الالتزام بنفس القاعدة . فتجده يبذل أقصي ما يستطيع من جهد من أجل أن تجيء قاعدة البنيان صلبة قوية تشد أزر ما يقام عليها وتمسكه من أن يطيح من جراء أي صور عصف عاتية ، إلا ما تجاوز الحد ... من أجل هذا تجد الأمم والشعوب تنفق الكثير من الجهد والمال علي مرحلة التعليم الأولي خاصة علي اعتبار أنها تشكل مرحلة الأساس للتعليم كله إن صلحت ضمنا إلى حد كبير سلامة الخطى التالية ، وإن طلحت أصيب التعليم التالي بالشروخ والانشقاقات ، وربما انتهى الأمر به إلي الانهيار .وإذا نظرنا إلى تعليمنا العام وجدنا أنه في مجمله ، أي من الحضانة إلىالثانوية العامة وما في مستواها يشكل مرحلة التأسيس ، فهو لا يعد لمهنة أو حرفة بعينها لكنه يمد الطالب بجملة من المهارات الحياتية التي تمكنه من التعامل بكفاءة واقتدار مع مختلف العناصر المكونة للبيئة التي تحيط به ، بشرية واجتماعية ، وبالتالي يوفر (الفرشة ) إذا صح التعبير لأشياء كثيرة يتطلبها التعليم الجامعي من طلابه حتى يحسن مواجهة الحياة الجامعية .ولا أظن أن هناك من الزملاء ممن هم مستمرون في الوقوف في قاعات الدرس يعلمون ، لا هؤلاء الذين هم (علي الأرائك ينظرون ) إلا ويشكو فكثيرون يشكون مر الشكوى من الهبوط المستمر في مستويات الطلاب الذين يلتحقون بالجامعات والذين هم (المنتج ) لعملية التعليم بالتعليم العام ، على الرغم من هذه الدرجات الفلكية الظاهرة التي يحصلون عليها في الثانوية العامة والتي . ربما قد لا نجد لها مثيلا في كثير من بلدان العالم ، والتي لم يحلم بها ( أمنحتب ) و(الطهطاوي) و (أحمد لطفي السيد ) و (طه حسين ) ومن في قائمة هؤلاء أو قريب منها . ومن المفروض في الجامعة أن يكون الطالب قد عرف كذا وكذا من أساسيات المعرفة التي سوف يتخصص فيها ، وأنه قد تدرب علي كذا وكذا من تلك المهارات اللازمة له كي يمارس الحياة الجامعية اجتماعيا وعلميا لكننا نصدم بأنه جاءنا خلوا من كم كبير منها ، وبدلا من أن نصرف الجهد والطاقة في تعليم هو من صلب التعليم بالجامعة ، نجد أنفسنا مضطرين إلى أن نعيد ونعيد في تعليم أساسيات وعلي مر السنين ، تتسع مساحة الوقت الذي نخصصه لتلك الأساسيات فإذا بنا نكتشف أننا قد أصبحنا نقوم بوظيفة التعليم الثانوي وأحيانا ما قبله وتتحول الجامعة أمام أعيننا وكأنها مدرسة ثانوي من حيث الواقع والفعل ، وإن ظلت تحمل بعض مظاهر التعليم الجامعي ولا حول ولا قوه إلا بالله فطالب الجامعة مفروض فيه أن يكون صاحب شخصية تتسم بالاستقلالية يعتمد على نفسه في ضبط الوقت وفي الحصول علي المعرفة وفي استيعابها، وفي إقامة العلاقات الاجتماعية ، وفي ممارسة الأنشطة الجامعية المختلفة. صحيح أن التعليم العام ، في تنظيمه وممارسته مفروض أن يكون مختلفا عن التعليم الجامعي لكن من المفروض كذلك ألا يسلم الجامعة طالبا أصيب بفيروس (الإعتمادية ) الذي هو مضاد ومخرب للجهد الذي يمكن أن تبذله الجامعة سعيا لتنمية شخصية إستقلاليه، ولعل ما يوضح هذا ، هو أن طالب التعليم العام لو يعتمد علي الفهم والاستيعاب من معلم المدرسة وإنما هو ينظر إلي الوقت الذي يقضيه بالمدرسة علي أنه ( إثبات حضور ) ليس إلا ، أما الشرح والتعليم فسوف يتم عن طريق مدرس خاص مهارته الأساسية ومعيار نجاحة كمدرس خاص هو كيفية (تشريب ) الطالب المعلومات الأكثر احتمالا تعرضا لأسئلة الامتحان فالمهم هو كيف يجيب علي أسئلة الامتحان لا كيف يتعلم ، وهناك فرق كبير بين الفلسفتين . عرفت أن طالبا قريبا لي يأخذ درسا في مادة التأريخ ، فلقت للأب إنني مندهش لأن يأخذ الابن درسا في مادة ليست صعبة يستطيع أي طالب أن يفهم ما يقرأه فيها فبادرات الأم التي كانت حاضره إننا نعطية درسا في التاريخ حتى يذاكره فهو لا طاقة له بأن يذاكر من نفسه فالدرس إنما هو مذاكرة إجبارية وليس هذا الذي عبرت الأم إلا فلسفة عامة أصبحت هي الحاكمة لتعليم الكثيرين من طلاب التعليم العام .والجامعة تنظر إلى القراءة لا على أنها نشاط ثانوي ترفي ، وإنما هي تغذية فكرية وعقلية، تقوم للعقل بما تقوم به ( التربية الرياضية ) بالنسبة للجسم ، ولذا قيل أن الجامعة : طالب ، وأستاذ ، وكتاب .. الأضلاع الأساسية لمثلث التعليم الجامعي ، ومن هنا تجد .
أن المكتبة الجامعية هي من أهم مقومات التعليم الجامعي . وتتخذ معيارا مهما في تقييم الأداء كما نري في الدول المتقدمة ، لكن الطالب أصبح لا يرى لمكتبة المدرسة الثانوية ، فضلا عما قبلها وجود حقيقي قد تكون موجودة كشكل ولكن أن يتدرب الطلاب علي دخولها والقراءة فيها والاستعارة من مكتبتها وأن يتعامل مع القواميس ودوائر المعارف ويستخرج ما يريد من معلومات . فمثل هذا أصبح ( خيالا ) وطموحا بعيد المنال فإذا جاء الجامعة وطلب منه بحثا أو مقالا أو قراءات إضافية نظر وكأنه مطالب بالمستحيل من الأمور وتحول الكتاب الجامعي إلى كتاب مقرر مثله مثل الكتاب المدرسي بل وبدأت الجامعة تعرف نوعيات الملخصات والمذكرات الشبيهة بالكتب الخارجية في المدارس .هل يصدق أحد أن أحد أساتذة الجامعة قد وجة سؤالا لبعض الطلاب في كلية التربية بمناقشه بعض الأفكار التربوية لمفكر مصري في العصر الحديث فإذا بالبعض يكتب عن أفلاطون أو الغزالي أو ابن خلدون ؟!! إذ يبدو أنه كان واجبا عليه أن يشير في السؤال إلى أرقام صفحات الموضوع بالكتاب .هذه مجرد أمثلة وهناك كثير غيرها ، كلها تشير إلي أن الجهود الحالية التي تبذل من أجل تطوير التعليم الجامعي ، مهما أخلصت ومهما دققت فسوف تتحطم لا قدر الله إذا لم يرتبط هذا التطوير بتطوير مماثل حقيقي لا إعلامي في التعليم العام .
مقالات للكاتب سعد جمعة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق