في أجواء دق طبول الحرب، وقرقعة السلاح، والمخافة العربية العارمة من عدوان جديد يدمر بلداً مركزياً في المنظومة العربية، ، مرت الذكرى العشرون لتوقيع “اتفاق أوسلو” - سيئ الذكر - من دون أن يهتم بالحدث الكثيرون. من النافل القول إن الأجواء السياسية العامة، التي حلّت فيها الذكرى المشؤومة، أجواء تضارعها في الشؤم إن لم تتفوق عليها، فسوريا المنكوبة بحربها الداخلية المفتوحة، التي تنهش في جسمها الكياني، وفي نسيجها الاجتماعي، وتستنزف قواها وقدراتها، لتجعلها لقمة سائغة لشهية الكيان الصهيوني. لم تكن في حاجة إلى حرب خارجية، من قوة ضاربة كالقوة الأمريكية، لتزيدها ضعفاً ونزيفاً، إذ كان يكفيها اقتتالها الداخلي لتتدهور قواها وتبلغ حداً أقصى من الإنهاك. ولكن الحرب - وهي ليست مجرد كلمة ينطق بها لسان - كانت ستخرب نتائجها وتداعياتها المنطقة برمتها، كما فعلت بنا الحرب على العراق. لذلك، كان من الطبيعي أن يستشعر العرب جميعاً مقادير الأخطار التي ستحدق بهم، وبدولهم، إن وقع المحذور.
ربما كان ذلك في جملة الأسباب التي تفسر لماذا ذهل الناس عن الذكرى، كمناسبة للتفكير في قضية فلسطين ومآلات التسوية، وانصرفت الأقلام عنها إلى وجهة أخرى. ولكن هذا مجرد وجه من وجوه الصورة، وليست وجهها الوحيد، إذ من السهل جداً أن نضع المسؤوليات على العامل الخارجي لتفسير إعراضنا عن الانشغال بالقضايا الأساس، فلا نلتفت إلى العوامل الذاتية التي تدفعنا إلى إنزال قضية فلسطين من منزلة القلب والمركز، في قضايانا كافة، إلى منزلة قضية في الهامش، أو - على الأقل - إلى منزلة قضية عادية من جنس القضايا التي تفرض نفسها على الانتباه في العالم.
لعل الأوان آن لنسائل أنفسنا: أحزاباً، ومنظمات شعبية، ومثقفين، وصحافيين وإعلاميين . .، عن أسباب هذا الإعراض الخطير عن الاهتمام بقضية فلسطين والصراع العربي - الصهيوني في العقدين الأخيرين، مع تسليم الجميع - لفظياً على الأقل - بأنها أمّ قضايا العرب . إذ ليس تفصيلاً أن القضية التي كان ينقسم عليها الحزب الواحد إلى حزبين، في مؤتمر ما، لم تعد تستحق منه أكثر من فقرة صغيرة في برنامجه، أو جملة اعتراضية في بيانه السياسي! والقضية التي كانت تُسيل مداد الكتّاب: مؤلفات ودراسات ومقالات، أصبحت بالكاد تعثر على رأي منشور، في شأنها، في مجلة أو صحيفة، والقضية التي كانت تحتل نشرات الأخبار والبرامج في الإذاعات والشاشات، أصبح الإتيان عليها بالذكر في حكم النادر، على الرغم من فورة ما أصبح لدينا من إذاعات وفضائيات تفوق عدد المدن والقرى تعداداً! كيف وصلنا إلى هذه الحال من الإهمال والتجاهل التي تَصُبُّ - أدركنا ذلك أم لم ندركه - في رصيد المشروع الصهيوني الذي قام، ابتداء، على الإنكار: إنكار وجود شعب اسمه الشعب الفلسطيني، وإنكار وجود قضية خلقها ذلك المشروع الاغتصابي الإحلالي اسمها القضية الفلسطينية. نحن، هنا، لا نسائل، لأن المواقف العربية هذه واضحة منذ بداية حقبة ما بعد حرب أكتوبر: إخراج هذه القضية من جدول أعمال السياسة الرسمية العربية، ووضعها في “العهدة” الدولية، فقد رحل عبدالناصر الذي كان يدرك ما تعنيه في المشروع القومي العربي مسألة فلسطين، والصراع مع الكيان الصهيوني .نحن نسائل القوى الشعبية: الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والإعلامية، لأن قضية فلسطين هي - ابتداءً - قضية الشعب العربي لا قضية النظام العربي، ولأن العالم لا يقيم اعتباراً لموقف النظام العربي، بعد أن أسقطها الأخير من جدول أعماله، لكنه يحسب ألف حساب لموقف الشعب والأمة . . ولو أن أكثر الناس لا يعلمون . وسيكون علينا، جميعاً، أن نخوض في هذه المساءلة الذاتية، بموضوعية وذهن صادق، من دون جنوح للتبرير أو مزايدات بينية، قصد تشخيص العوامل والأسباب، التي قادتنا إلى هذه الحال، وتصحيح مسار تقوم نتائجه الكارثية مقام الحجة علينا. غير أن هذه المساءلة لا تكون شاملة، وموضوعية ودقيقة، إن لم تعد فتح ملف العمل الوطني الفلسطيني وإعطابه، ومواطن الخلل فيه، وآثار ذلك سلباً على الاستقبال العربي للقضية. وأهم وأولى ما ينبغي فتحُ الحديث النقدي فيه هو خيار التسوية في الوعي السياسي الفلسطيني، ولدى قيادة منظمة التحرير، الذي قاد القضية إلى قضية أوسلو قبل عشرين عاماً. وها هو الوهم عينه يتجدد - ثانية - لدى سلطة أوسلو في رام الله، رغم أنها لدغت من الجحر ألفَّ مرة.
مقالات للكاتب عبد الاله بلقزيز
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق