الخميس، 16 أغسطس 2012

ليالي رمضان مع السيد الدكتور إبراهيم الجعفري

 لو أردنا أن نتحدّث عن فضل الإمام الحسن - عليه السلام - كيف يكون الحديث؟
الدكتور إبراهيم الجعفري:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة، والسلام على محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين..
أنطلق من الآية القرآنية المباركة:
((إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً))
حتى يكون الحديث عن الإمام الحسن - عليه السلام - مبنياً على نظرية معرفية، فإننا ننظر إليه - عليه السلام - من عدة زوايا: زاوية الجعل الإلهيّ، وانطلاق الآيات القرآنية الكريمة التي جاءت لعموم أهل البيت- عليهم السلام -، وينطبق على الإمام الحسن ما ينطبق على الرسول والأئمة والزهراء - صلوات الله عليهم .الشخصية تتكوّن عادة ًمن مجموعة عناصر تؤثر فيها نظرية، ومنها: عنصر الجينات، وما تحمله من مواصفات تكوينية عبر الأجداد، ومن الآباء إلى الأبناء. هذه النظرية إلى الأمس القريب كما هو قانون (مندل) الأول والثاني تقصر نقل الصفات وراثياً على الصفات التكوينية والعضوية فقط، إلا أن الإسلام لا يؤكد على أن الصفات التي تـُنقـَل هي التكوينية والعضوية فقط إنما تـُنقـَل كذلك الصفات السلوكية ولعل هذا كان غريباً حتى الأمس القريب، يقول الحديث الشريف:(اختاروا لنطفكم فإن العرق دسّاس)، و (الخال أحد الضجيعين)
لم يجد علماء الوراثة مبرّراً مادياً إلا بعد أن أطلّ مؤخراً هكسلي، وقال: ليس فقط الصفات العضوية والتكوينية التي تنتقل إنما الصفات السلوكية كذلك.أي تنتقل عن طريق الوراثة، الشجاعة والكرم والجُبن والبُخل والتسامح والخلق بسلبياتها وإيجابياتها، كما ثبت في علم النفس التجريبيّ أيضاً أن هناك صفات تنتقل من الأجداد عبر الآباء والأمهات إلى الأولاد.الإمام الحسن - عليه السلام - طبقاً لهذه لنظرية توافرت له ظروف فريدة متميزة فجده رسول الله - ص - وأبوه علي بن أبي طالب وأمه الزهراء وجدته لأمه خديجة سيدة نساء عصرها، أما الزهراء فهي سيدة نساء العالمين. هذه المواصفات توافرت للإمام الحسن بحسب نظرية النقل الجينيّ، والحقيقة هو ليس صفة أو صفتين أو ثلاثاً.نعتقد أن الصفات التي تنتقل من الناحية الطبية هي جيش كامل من المواصفات الوراثية سواء كانت تكوينية كشكل الوجه وطول القامةولون البشرة والشعر والحاجب وكل أعضاء الجسم حتى إن هناك أمراضاً وراثية تنتقل، أو صفات معنوية سلوكية.
ليالي رمضان برنامج في حلقات يلقي الضوء على ما ينفع المؤمن في هذا الشهر الفضيل، ولعل خير من يؤدي هذا الدور هو الدكتور إبراهيم الاشيقر الجعفري.
إذا كانت هذه الصفات تنتقل بخيرها وشرّها، فما هي ميزة الخيّر عن الشرّير، فالصفات الخيّرة تدخل صاحبها الجنة، فما ذنب من تنتقل إليه صفات شريرة؟
هذه المسألة بحثها علم الكلام في مبحث العدل الإلهي، بأن هذه الصفات هل تنتقل نقلاً ميكانيكياً أم إنها خاضعة لإرادة أخرى؟
الإمام الحسن - عليه السلام - توافرت له فرصة أن يحظى بعوامل تكوينية وبلغة العصر الحديث جينية تنتقل له من أفضل الآباء وأفضل الأمهات وأشرف الأجداد وأشرف الجدات، وهناك جيش آخر من الصفات انتقلت إلى الإمام الحسن وهو العامل العائلي، وما يكتسبه الإنسان من قيم في سنوات عمره من أمه وأبيه.
فمن تـُزرَع فيه قيم ستنعكس على مستقبل حياته؛ لذا صدق رسول الله - ص - عندما قال: (اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد)
(من المهد) يعني أن الكائن يتلقى حتى وإن كان صغيراً؛ فأفعال الوالدين لغة يفهمها الطفل، وينبغي أن تـُقرَن التصرّفات بما فيه أثر تربويّ على الطفل، ولعل الأم لديها تجربة بأنها إذا عبست بوجه ابنها قد يبكي، وحين تداعبه وتضربه وهي تداعبه يتقبّل، ويتلقى حتى إذا كان الضرب إلى درجة أن يحمرّ وجهه.. هذا دليل على وجود لغة يفهمها؛ إذن التلقي لدى الطفل يبدأ مبكراً جداً خصوصاً فترة السبع سنوات، أو ما يمكن أن نسمّيه النظام السُباعيّ، أو الثالوث السُباعيّ كما جاء في الحديث الشريف، ومفاده: أن السبعة الأولى هو فيها أمير في العائلة، أي لا تستطيع أن تأمره بشيء، إنما هو يأمرك، ولا تضعه في موضع كله ممنوعات؛ حتى يستكمل بناء جسمه ونفسه، ولا يظل يسمع كثيراً بكلمة (ممنوع)، وتشبع شهوته، ويأخذ الأشياء النظيفة، فيستوفي مستلزمات النمو النفسيّ والجسميّ بشكل جيد وطبيعيّ.
العامل العائلي مؤثر جداً، والبيت مسؤولية والتربية من أصعب المسؤوليات..
لقد حظي الإمام الحسن - عليه السلام - بأم كالزهراء - عليها السلام - وأب كعلي بن أبي طالب - عليه السلام - والبضع سنوات الأولى عاشها في كنف جده الرسول - صلى الله عليه وآله - فتوافرت له فرصة لم تتوافر لأحد وهو في أيام الطفولة الأولى بأن يعيش في كنف جده رسول الله.
العامل العائليّ المبكر كان بالنسبة إلى الإمام الحسن مدرسة متكاملة فقد كان يتنبّه إلى عبادة أمه الزهراء، وكيف كانت تصلي حتى تتورّم قدماها، ورأى أمير المؤمنين كيف كان ينقطع، ويصلي، ورأى جده - صلى الله عليه وآله - وكيف كان يدعو.
هذه المنابع المتعدّدة مدرسة كاملة من القيم والمفاهيم بلغة الحال، وكانت ثقافة المحسوس حيث البيت وكيف تنسجم المشاعر على مستوى العصمة وعلى مستوى الرسول - صلى الله عليه وآله - كيف كان منسجم المشاعر عندما تبدو على وجهه الشريف علامات الرضا أو عدم الرضا والابتسامة والحزن كلٌ في مورده، فتنصقل مشاعر المتلقي بطريقة الكمال البشريّ؛ لأنه أمام إنسان كامل العطاء، فيتلقى ذلك بشكل منقطع النظير، ويساهم في ذلك الجوّ العائليّ المُفعَم بالمحبة وقوة القيم والأفكار والمفاهيم، فيتلقاها، ويتغذى عليها.
هذا العطاء التربويّ كان بالنسبة للإمام الحسن فرصة ما توافرت لأحد
- بالمناسبة - الكثير من الناس في سِني حياتهم المتأخرة أدركوا أنهم تلقوا قيماً منذ وقت مبكر، وليس من السهل التخلص منها.
أعتقد أن مرحلة القيم تسبق مرحلة الأفكار، أي إن الإنسان يتلقى القيم، ويدرج عليها حسب نظريات الفيلسوف هافلوف (الانعكاس الشرطي) حين يرى أمه تبتسم بوجهه، وتسلك سلوكا معيّناً تنتقل هذه الابتسامة إلى ذلك السلوك بالمنعكس الشرطيّ، ويبدأ يتقبّل، فتأخذ نفسه حصة كبيرة من القيم والمفاهيم؛ لأنها مُحبَّبة خصوصاً أن المعطي وهو الأم تختار الوقت المناسب، كما أن محاسن الأخلاق مما يطابق الفطرة، فيستحسن الصدق ويستقبح الكذب، يقول الله تعالى:
((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ))
على الدين القيّم والفطرة بُنيَت شخصية الإمام الحسن - عليه السلام -، فتوافرت له فرصة رائعة جداً لأن يستلهم هذه المعاني والقيم.
كل ما يدور في العائلة يؤثر في الطفل، وكلها تشكّل جواً يستلهم منه منظومته القيمية التي تنعكس على شكل سلوك في مراحل العمر؛ لذا تماسك لحمة العائلة يساهم في عطاء مشترك ينتظم حول ناظم واحد ناظم تربويّ قيميّ أخلاقيّ سلوكيّ فكريّ.. هذا هو العامل الثاني.
العامل الثالث هو المجتمع: الإنسان - شاء أم أبى - هو ابن بيئته إلى حدّ ما، والكثير من الناس - للأسف الشديد - يكونون أصداءً لصوت البيئة، مثلاً: هو يعيش في جنوب شرقي آسيا، أو يعيش في الهند، فيصير هندوسياً، ويعيش في روما، أو يعيش مثلاً في ألمانيا فيصير كاثوليكياً، ويعيش في الصين، فيكون كومفوشيوسياً أو بوذياً، أو يعيش في الشرق الإسلاميّ والشرق الأوسطيّ فيكون مسلماً.. وقِسْ على ذلك التفريعات الأخرى؛ إذن الإنسان في الحلقة الثالثة من التأثير، يعبر عنه جيش من الصفات تنتقل إليه من البيئة، فتركب لاشعوره وشعوره، وليس من السهل أن يُفلت من هذه التأثيرات، وهذا الجيش يتقدم له بمختلف الأساليب في مختلف مراحل مسيرة البشرية.
كان الإعلام سابقاً بسيطاً، لكن هذه العوامل تتظافر، فتقدّم له منظومة من الأفكار، وهو يعيش إسقاطاتها إلى حدّ ما، لا بشكل مطلق؛ لأن الكثير من قادة العالم والشخصيات خرجوا عن عُرفهم، وما استسلموا لها وهذه دائماً تكون قلة؛ ولذلك أول ما ناهض الإسلام هذه الحالة:
((إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون))
الإسلام يرفض أن نصير صدى لصوت البيئة، إنما يريد أن تكوّن نفسَك بنفسك، ليس كل شيء في البيئة صحيح، كما ليس كل شيء صحيحاً في التاريخ، فالجوّ الاجتماعيّ - شئنا أم أبينا - يشكّل نسيج الشخصية، وتمتدّ هذه الخيوط حتى تتشكّل شخصيّة الطفل.
العامل الرابع: وهو الأساس والحاسم، هو العامل الذاتي في الشخصية، ونحن عادة نكون على موعد مع التاريخ، فكل واحد منا لو رجع إلى تاريخه لوجد نفسه أنه على موعد في مرحلة ما يسمى بـ(المراهقة) أنه كان ثورة على العائلة، وثورة على المجتمع، وثورة على الأعراف والتقاليد، وثورة على كل شيء، حتى الموروث. هذه يحسّ بها أغلب الشباب؛ لذلك تكون الصفة البارزة في شخصية المراهق هو طرح الاستفهامات، فتراه في داخله يعيش حالة تمرّد حتى الآباء والأمهات يشكون منه، فيما الصواب أن حالة الاستفهام وحالة التمرّد هي علامة صحة، تدلّ على أننا أمام شخصية عبرت من مرحلة الطفولة من عقل التلقين والتلقي السلبي إلى مرحلة العقل المتوقد والمنفتح الذي لا يقبل إلا بالعلة والسبب، ويبحث عن الحقيقة.
أما العامل الوراثيّ فجزء منه يمكن تغييره، وآخر غير ممكن وهو كطول القامة ولون البشرة وشكل العين والحاجب والأنف والفم.. هذه عوامل تكوينية انتقلت بالوراثة، ولا تتبدّل، بينما النظرية الإسلامية تتبنى حسن الاختيار بين الزوجين وفق مبادئ حدّدتها، ومنها: (اختاروا لنطفكم فإن العرق دسّاس)، و(...إن الخال أحد الضجيعين)، أما الصفات الوراثية التي تنتقل فبعضها يمكن تغييره من خلال التربية والتعليم، والتمرّس على أضدادها، فمن تنتقل إليه صفة الجبن من أسلافه يمكنه أن يكون شجاعاً إذا تردّد على ميادين المواجهة وسوح الوغى قليلاً قليلاً، وكذا البخل يستطيع الإنسان التغلب عليه بالتدرب على البذل والكرم؛ إذن العامل الرابع الحاسم هو الجهد الذاتيّ حين يعمل الإنسان إرادته في التطبيق لهذه الحقائق.
الإمام الحسن - عليه السلام - منذ وقت مبكر من حياته الشريفة، وهو يتردّد على المسجد، ويأتي إلى بيت الله، ويتزوّد، ويلتصق بهذا المكان المبارك، ويعمل إرادته.
النظرية الرابعة: إنه كان يعمل جاهداً خصوصاً عندما تلتقي لديه العوامل، ويرى أمه كيف كانت تعبد، وأباه كيف كان يعبد، وجده كيف كان يعبد- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - فبكل تأكيد أخذت مسارها في نفسه، لكنها لم تنتقل إليه بنحو قسريّ، لم يكن يدرك من غير وعي إنما كانت بوعي وإرادة، فهو يتحرك ذاتياً، ويطبّق ذلك، ويُعمِل إرادته؛ وبذلك تلتقي هذه النظريات الأربع كلها؛ لتفسّر لنا بأن حياة الإمام الحسن - عليه السلام - كانت مرحلة أقرب إلى القمّة بل هي القمة، فيما حملت له من فرص التوارث الجينيّ، وتوافر العامل البيئيّ المبكر، والعامل الاجتماعيّ، والعامل الذاتيّ الذي عاشه الإمام الحسن - عليه السلام -، وصنعه هو كذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق