المشاهد والأخبار المنقولة من ليبيا على مدى الأيام القليلة الماضية، وتصدّرها حصار وزارة الخارجية الذي ضربه رجال مدججون بمختلف أنواع السلاح، للمطالبة بتطبيق ما يسمى “قانون العزل السياسي”، تؤكد مجدداً أن الوضع في البلاد مرشح للاستمرار في انفلات الأمن والأمان، ومرشح أيضاً لمزيد من حركات الإقصاء، ومشاريع الحكم الشمولي .
أي قوى سياسية كانت موجودة في الأساس في بلد مثل ليبيا في عهد معمر القذافي الذي حرّم وجرّم التحزب وأي تجمع أو شكل من أشكال التنظيم السياسي؟ وأي عزل “سياسي” هذا الذي يطالب به من هم على أقل تقدير، لا ينتهجون أسلوباً أو طريقة سياسية في تقديم مطالبهم والضغط باتجاهها؟ وما هو مفهوم العزل السياسي من أساسه؟ وهل يعقل أن يكون موجوداً أو قابلاً حتى للتطبيق؟
المشهد في محيط وزارة الخارجية الليبية يعبر بدرجة “مخفّفة” عما يدور في البلاد، وينقل صورة مصغّرة للوضع المتأرجح الذي تعيشه، فالاستقرار يبدو سمة مفقودة، والوضع بشكل عام قد يواصل منحاه التصاعدي يوماً بعد يوم .
العزل السياسي هو مصطلح يختبئ خلفه أصحاب مشاريع اختطاف عملية التغيير، سواء تم ذلك سلمياً أم عن طريق السلاح والحرب الأهلية، والهدف الرئيس منه تحوير نموذج الاستبداد السابق المبني على “شرعية عسكرية” مثلاً، إلى نموذج استبداد آخر قائم على التستر بالدين، وادعاء التكليف الإلهي، وجلد المعارضين بسوط التخوين والتكفير، وفي كثير من الأحيان وضعهم على قائمة النظام السابق .
لا يمكن لنظام ديمقراطي أن يستوعب في ثناياه مثل هذه التوجهات الإقصائية والتهميشية التي تستهدف أياً كان نتيجة لرأيه، وتضرب حرية التعبير في مقتل، بزعم أن “س” المحسوب على النظام السابق، تهديد للديمقراطية الناشئة، وأن “ص” الساعي إلى وئده ليس إلا “حارساً أميناً” للثورة، أو عملية التغيير السياسي أياً كان شكلها.
إنه لأمر مثير للعجب والاستهجان، فكيف يمكن أن يقتنع أي سامع بوجاهة الرأي القائل بإقصاء المعارضين، أو “لجم” المحسوبين على النظام السابق؟ وكيف يمكن أن يكون هناك محسوبون “سياسياً” على نظام حرّم السياسة ؟.
الأمر لا يعدو كونه استعراضاً مكشوفاً للعضلات، وحلقة في مسلسل إرعاب الخصوم، أو كل صاحب رأي مخالف، فإدخال عنصر السلاح في صراع سياسي، كافٍ لكشف الأجندة والعقلية، والتذرع بعدم استجابة النظام للمطلب، لا يعدو كونه حجة فارغة، يهدف أصحابها إلى وضع اليد على الدولة والنظام والشعب ككل، في استنساخ سيئ لنموذج سابق اتهم على الدوام بالشمولية والاستبداد .
وبالعودة إلى النقطة الأساسية في الموضوع، فإن مجرد إقحام مصطلح “العزل” في قاموس الديمقراطيات الناشئة حديثاً، يعد نوعاً من التجني وليّ عنق المفاهيم والحقائق، إن لم يكن محاولة استهداف أو تصفية سياسية، قد تتحول في أسوأ الأحوال إلى تصفيات جسدية للمعارضين وأصحاب الرأي، وفي هذا من المحاذير والأخطار الكثير، وأخطرها تهديد تفكّك الدولة إلى ساحة لصراع نفوذ لا تستثني معاركه أي سلاح.
مقالات للكاتب محمد عبيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق