حشر نفسه في قافلة المتعففين وفرش بساط حظه على خسفة في الرصيف ، وزع مستهلكاته بشكل غير متجانس وبان الخجل على الرجل بما يقارب الأربعين يوما ،عرف أن الذي يسرح على كتفيه ليس نملا ً وإنما دبابيس حيّة التقطها ظهره من الشمس مباشرة ، مرّ عليه رجل أصلع بنظارة سميكة ظهرت عليه أعراض المعرفة وسأله إن كانت له صلة رحم بكتب الفلسفة والأدب فردّ عليه ( يقولون أن الملح يصلح فاسدا ، فما حيلة الإنسان لو فسد الملح !) فعرف أن الرجل يحمل مسا من المعرفة وعليه أن يتحمل وزر ما عبأ في رأسه من طلاسم ، سأله أيضا فيما إذا كان الرصيف يرد عليه الوحشة ويقدر أتعابه أم لا ، فرجاه أن يتركه لتكملة حل الكلمات المتقاطعة الموجودة في نهاية المجلة التي التقطها من كومة أزبال قريبة ، نشف ريقه ، لم تعد الخرقة التي يستظل تحتها تحميه من جور الشمس اللاهب ، نظر الى بضاعته التي اعوّج أغلبها من الحرارة ، وقال مع نفسه : - ياروحي ,. النهر معبأ بالعطش وأنت لا تشتهين غير السوائل، المطعم يعج بروائح المشويات وأنا معصوب البلعوم .. ، بلل شفتيه ماء مالح غير مستساغ عرف انه نزل من مآقيه فمسحه بطرف كم القميص الذي يبدو أن لونه كان ازرق على الأرجح.
عندما فرغ الشارع من المارة وصار الرصيف فائضا ًعن الحاجة ، أحصى معروضاته للمرة الأخيرة ،لم يطرأ عليها أي تغيير ولم تنقص منها حاجة ، مدّ يده الى جيبه وتأكد من نظافته ، كان جيبه واسعا يكاد يصل الى ركبتيه لكنه فارغ على الدوام ، لملم حاجياته ووضعها في حقيبة جلدية مخصصة لها ، حملها على كتفه فشعر بعدم توازن جسمه فنقلها الى الكتف الآخر ومشى ، حذائه المطاطي التصق برجله فأسرع خطاه ، ظل يسير محاذيا للحيطان علّها تخفف من وطأة الحر ، يحدق في الأبواب والشبابيك والدكاكين والأشجار والمجاري والسابلة ، يبحث عن عذر يقدمه الى رئيس دائرته التي تأخر عنها كثيرا هذا اليوم ، أحصى الأعذار التي قدمها بسبب التأخير لئلا يتكرر نفس العذر.
تمنى لو يخلع حذائه ويضعه في حقيبته لكنه خشي أن يراه أحد فينعته بما لا يليق ، قدّر خطواته من خسفة الرصيف حتى هذه اللحظة . – آه لو كنت قد بعت حاجة هذا اليوم وصعدت الباص!
أحس أن ريقه قد نشف تماما ، تمنى لو أن منزله يأتي إليه ليشرب كأسا من الماء وينام على أنغام بطنه التي بدأت تعزف على نغم السيكاه ، خلع حذائه المطاطي ووضعه في الحقيبة الجلدية ورماها وسط الشارع عندما تذكر أن منزله ظل وراءه بعيدا وظل يمشي .. يمشي .. يمشي حافيا لا يفكر بالتوقف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق