تعلمنا منذ الصغر أن شهر رمضان أعظم الشهور عند الله، أكثرها رحمةً، وأشدها مغفرةً، وظننا أن الناس تبدو كالملائكة من فرط التقرب إلى الله والتخلص من شوائب الدنيا والنفس الأمارة بالسوء.
حين كبرنا وجدنا أن شهر رمضان هو الشهر الوحيد الذي أريد له أن يكون حاضناً لكل الانحدار الأخلاقي الذي قد يتبناه أحد أو جهة. خيام رمضانية، مسلسلات هابطة، برامج لا تغني ولا تسمن من جوع. ونضيف لها منذ أعوام قليلة سوءات اللسان الذي لم يعد يصوم من فرط اجترار اللحم البشري في الليل والنهار، وآخر السوءات تفويضٌ بالانتهاكات من الشعب ونوابه لممارسة هواية إنهاء الآخر، لكن الدم المباح أسوأ ما قد يأتي به المسلمون في شهرهم هذا، وكادت الدنيا لتتوقف عندهم لو أنهم أجّلوا ذبح البشر كما تذبح الشاة حتى ينقضي الشهر الفضيل.
حين نتحدّث عن الذبح والموت المباح نستحضر صورة قتلى رابعة العدوية في مصر، وقتلى سورية التي تتضاعف أعدادهم من الطرفين، والخائفين والهاربين والمختبئين والمعتقلين والمنتظرين شراً عمّا قليل في كل بقاع الأرض العربية المسلمة، لا تستطيع إلا أن ترى أن كل هذا الدم بشريٌ بحت، وإنسانيٌ خالص. وحين تقسم تعاطفك مع الناس وفق أفكارهم وتوجهاتهم ومذاهبهم وحتى مواقفهم فعليك حينها أن تتحسّس إنسانك المشوه والمنحاز لبعض الإنسان. الدم كله أحمر، والخوف كله مُرّ، والسجن كله انتظار، والهرب كله خطر. يتشابه كل ذلك عند الجميع، لكن البعض يريد لإنسانك أن يكون مشوّهاً كي لا يشعر بنقيصةٍ في ذاته.
هذه الدماء المسكوبة على عجل، تحت ألف مسمى، دون توقّف للتدبر أو التفكّر، لا يعرف القاتل لمَ قَتَل، ولا المقتول فيما قُتل. ليس هناك مبرراتٌ كافيةٌ لكلّ هذا الموت بالجملة، المترامي على أطراف الدول العربية من المشرق إلى المغرب. يتأمل المرء هذا الموت الجماعي فلا يُدرك أيَّ بربريةٍ بلغها العرب اليوم، بعد أن كان عرب الجاهلية يقيمون اعتباراً للهدنة في الأشهر الأربعة الحرم من كل عام، ونجد اليوم أن الأشهر الحرم بها كل فسوقٍ وجدال، وفي الشهر الكريم (رمضان) هذا العام تُقدم القرابين البشرية في واحدة من أسوأ مراحل الابتذال الإنساني التي قد يمرّ بها المجتمع العربي المسلم.
في تونس كانت الاغتيالات لمعارضين ونشطاء بارزين دعوةً أخرى للخروج والتمرّد على الحكومة التي تغيّرت مع رحيل الرئيس المخلوع، وفي مصر كان الموت حفلةً جماعية ذُبح فيها الناس بعد تفويضٍ للجيش، ذلك أن سلطةً واثقةً من قرارها ليست بحاجةٍ لتفويض من الشعب كما تقول، للقيام بعملها، لكن التفويض هو للتنصل من مسئولية الدم المسفوك دون وجه حق، والهرب من المساءلة عن كل الجرائم بحق الإنسانية التي ستحدث بعد ذلك التفويض، فاليد التي تضرب لن تكون بعد التفويض كما هي قبله، ولن يكون القتل الذي هو جريمةٌ قبله كما هو أمر لازم وضروري بعد تفويض الجماهير.
في كل البلاد العربية هناك جماعاتٌ تظنّ السلطة أنهم خارج قطيعها، لذا وجب استئصال شأفتهم، في بلدٍ ما قد يكونون الأخوان المسلمين، وفي آخر هم الشيعة، وفي ثالث الأكراد... وهكذا يصبح المختلف فكراً أو ديناً، هدفاً لفوهات البنادق وزنازين السجون .
مقالات للكاتب مريم ابو ادريس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق