بين ثنايا مشهد المعسكر المعارض لسوريا بدت تركيا أردوغان كمراهق يرتجل الكلام في صالون ثقافي، بل إن القادة الأتراك فاجأوا المتشائمين إزاء سياستهم بما هو أشد تشاؤماً، وأضافوا على تقديرات سطحيتهم درجات إضافية. لا يمكن لقيادة سياسية أن تتعامل مع الحرب بهذه الحماسة وهذا الجموح والمغالاة، وكأنها هدف بحد ذاته، ولا يستطيع المواطن التركي أن يستوعب تصريحات قادته المتعاملة مع الغرب وكأن قوة مسلّحة تأتمر بإمرة طيب رجب أردوغان أو داوود أوغلو.
عبر التاريخ، كل القوى التي نزعت وتنزع للحرب، تحاول الظهور بمظهر المسالم الذي يلجأ للحرب كخيار أخير، لكن القادة الأتراك الذين بدوا كأفعى ضربت على رأسها، بعد سقوط حليفهم في مصر، وظّفوا الاندفاعة الأمريكية الأخيرة على نحو أظهرهم مقدّسين للحرب، وأظهروا حتى للمواطن الغربي أن تركيا تريد أن تجيّر دماء الغربيين لخدمة مشروعها، ومحاولة تعويض خسارتها القاسية في مصر، من خلال وضع سوريا تحت جناحها، وكأننا أمام إعادة إنتاج لإمبراطورية عثمانية تعيّن والياً لها على الشام .
من الأجدى أن يكون لأروغان وحزبه الجريح أن يجيبوا عن تساؤلات أهم الصحف ووسائل الإعلام التركية، وأبرز القادة السياسيين من خارج الطبقة الحاكمة بأمر الثنائي أردوغان - أوغلو. فالحكومة البريطانية، رغم كل تبعيتها العمياء للولايات المتحدة، لجأت إلى مجلس العموم كي تحمّل ممثلي الشعب مسؤولية قرار خطير بدرجة حرب وتداعيات، وجاء الجواب بـ”لا للحرب”. انكفأ كاميرون وقال للأمريكي: إذهب أنت ومن معك، والألمان الذين تختزن ذاكرتهم بكم هائل من ويلات الحرب، ولم تكد بلادهم تشطب من أذهان الغالبية الألمانية مرتكزات العنصرية النازية وتراثها الحربي الذي قسّم الأمة الألمانية وأوروبا، وأورث البشرية تاريخاً مكتوباً بالدماء. وعندما ينظر الألمان للقوة الأمريكية المنبثقة عن الحرب العالمية الثانية، يتذكّرون على الفور هيروشيما وناغازاكي والعراق وأفغانستان ولبنان، والضحايا الفلسطينيين الذين يدفعون ثمن سياسة التبني الأمريكي الأوقع في التاريخ لجلاد ينكّل بالضحايا ليلاً نهاراً، فيما تمنع واشنطن كل المحافل الدولية من الاستماع لشكوى دمائهم.
الأتراك كشعب لديهم من التجربة والثقافة ما يكفي ليتساءلوا عن سبب استعداد قيادته للانضمام لأي جماعة تطلق النار على سوريا، وعن سبب عدم تفكير أردوغان- أوغلو بدعوة البرلمان التركي لمناقشة الأمر. عندما يستتفه حزب العدالة والتنمية التركي، “الديمقراطي جداً”، اللجوء لممثلي الشعب قبل المشاركة في حلف سبق له أن أوقع شعوبه في أزمات بلا نهاية، فإن الاستنتاج الوحيد يتمثّل بأن أردوغان يلتزم قرار الكونغرس الأمريكي وليس الشعب التركي الذي يدرك أكثر من غيره حجم الخسائر التي تكبّدها بسبب رعونة قيادته، وهذا الشعب هو الذي قد يتذوّق مرارة الحرب الشاملة التي يدعو إليها أردوغان، لأن الشمولية هذه لن تستثني الشعب التركي من نيرانها عندما تندلع الحرب.
إذا كان الغرب يبدو كقرد يحمل قنبلة حسب توصيف موسكو، فإن القادة الأتراك ظهروا كحامل الموز الراكض خلف القرد ليطعمه، ولا يصلوا إلى مستوى القرداتي الذي يشغّل القرد راقصاً ومروّضه بالخيزرانة، لإضحاك الناس ويسترزق بإمتاعهم. لكنّها الحرب التي تحرق مُشعلها أيضاً، لا متعة فيها ولا ضحك، بل دماء ودموع، وهزائم وانتصارات كلها بنكهة الدم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق