تتسرّب أنباء منذ مساء الأحد عن دخول المناضل الأفريقي نيلسون مانديلا حالةً حرجةً، فتخفق لذلك قلوب مئات الملايين من مختلف الدول والقارات.
مانديلا شخصٌ وُلد قبل أكثر من تسعين عاماً، و وجد نفسه يدفع ضريبة سياساتٍ فُرضت عليه وعلى قومه، فقط لأن لون بشرتهم سوداء. فقد كان النظام يصنّف الناس حسب ألوانهم، وما يبدو الآن أمراً مضحكاً وسخيفاً، كانت تسير وفقه دولةٌ متقدمةٌ علمياً، اسمها جنوب أفريقيا، امتلكت القنبلة الذرية ونجحت في إجراء أول عملية قلب مفتوح، لكنها لم تنجح في الالتزام بأبسط قواعد حقوق الإنسان... وهي المواطنة المتساوية.
كان على رأس نظام الفصل العنصري نخبةٌ من البيض، تتلوهم الأجناس الأخرى من الملوّنين، مهاجرين آسيويين، هندوساً ومسلمين ومسيحيين، وفي القاع يأتي الأفارقة السود. وحين تخرّج محامياً تخصّص في الدفاع عن قضايا الأفارقة، لأن أغلب المحامين البيض لا يدافعون عنهم، إما اقتناعاً بأنهم أنقى عنصراً، خُلقوا من نارٍ وغيرهم من طين، وإمّا خوفاً من الاصطدام بمجتمعهم العنصري المريض.
قصة «ماديبا» ربما باتت معروفةً للجميع، إذ قاد نضالاً عسكرياً حتى سُجن، حيث تحوّل إلى رمز عالمي للنضال من أجل الحرية.
لم يكن كل العالم مع مانديلا، وإنّما كان معه المناضلون الواعون من كل الشعوب، وكان يصطف مع أعدائه أغلب دول الديمقراطيات الأوروبية العريقة، وظلّت أميركا وبريطانيا تدافعان عن نظام الفصل العنصري حتى مطلع الثمانينيات في عهد الثنائي المشؤوم الشرس: ريغان/ثاتشر. وكان مانديلا يتعرّض لحملاتٍ إعلاميةٍ مبرمجة، تقدّمه في صورة المجرم الإرهابي الخطير، على أيدي ثلّةٍ من الكتّاب والصحافيين والإعلاميين. كلهم اليوم اختفوا من الساحة، ولم يعد أحدٌ يذكرهم إطلاقاً، وانمحت أسماؤهم من الوجود، وبقي اسم مانديلا الحر تخفق له القلوب.
كانت هذه الأقلام الرخيصة تهاجمه وتسبّه وتشتمه، طوال ثلاثين عاماً، ما كلّت من الشتائم والقدح، وما تعب وما ملّ هو من النضال. خطّان متوازيان، يمثل أحدهما حب التسلط والاستئثار والاستعباد، ويمثل الآخر حبّ التحرّر والعدالة والمساواة بين البشر. هذه الحركة التي نجد أنفسنا نتعاطف معها بكل وجداننا، كعربٍ وكمسلمين، انسجاماً تلقائياً مع الذات والتاريخ والمبدأ القائل: «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى». هذه البديهية الواضحة كالشمس، تغيب عمّن نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فباتوا متخصّصين في شتم مواطنيهم 24 ساعة في 52 أسبوعاً في العام. هذا حالهم منذ سبع سنوات وأكثر، ما ملّوا وما كلّوا، يعيدون الكلام في الموضوع الواحد ألف مرة ومرة... إلى درجة الغثيان.
صحيفةٌ مستقلةٌ لا تستلم فلساً من تحت ولا فوق الطاولة، تنفّذ عدداً من البرامج التواصلية مع الناس أخذاً بمبدأ «المسؤولية الاجتماعية»؛ تهتم بتشجيع الكتابة للشباب والناشئين؛ وتنظّم مسابقات تصوير للمحترفين والهواة (أخذت تستلهمها بعض الشركات والمؤسسات كأيّة فكرة رائدة)؛ ونظّمت معارض للتحف والمقتنيات الأثرية والطوابع؛ وكان آخرها تنظيم حفلات تكريم للإداريين والمعلمين المتقاعدين. وُجّهت الدعوات للجميع دون تمييز، فكلهم أساتذتنا ومعلّمونا، طرفٌ حضر وطرفٌ غاب، خشيةً على نفسه من التسقيط والتشهير والتكفير والاتهام بالخيانة، على أيدي عقارب الرمل التي تعيش في المياه الآسنة، كالطحالب الهرِمَة التي بلغت من العُمُر عتياً، حتى تهرّأت وأفلست وسقطت في ميزان القيم والأخلاق والمبادئ الإنسانية، وأصبحت تستخدم لغة العنصريين الأوباش.
مقالات للكاتب قاسم حسين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق