لم تكن حديقة تقسيم سوى الشرارة التي أشعلت التظاهرات الشعبية الواسعة في مختلف المدن التركية، ما يعزز الانطباع بوجود أسباب أعمق وأشمل من قضية تقسيم، فالمجتمع التركي يعاني من أزمات سياسية واجتماعية يمكن تقسيمها الى ثلاثة محاور رئيسة هي:
أولا: من المعروف أن تركيا حققت نموا اقتصاديا كبيرا خلال العقد الأخير، واعتبر النموذج التركي مثالا لدى بعض البلدان النامية، إلا أن عام 2012 شهد تراجعا ملموسا في النمو الاقتصادي. ففي أعقاب سنتين من النمو المرتفع، شهد الاقتصاد التركي تراجعا واضحا في عام 2012، إذ سجل الناتج المحلي الإجمالي نموا بلغ 2.2 % في مقابل 8.8 % في عام 2011. وبالتدقيق في أسباب التراجع، تبين أن من أهم محركات النمو الاقتصادي التركي (القروض والتدفقات الاستثمارية الخارجية) فقد اعتمدت تركيا على القروض الأجنبية، التي رفعت المديونية الخارجية الى 350 مليار دولار، على عكس ما انتشر بين الأوساط الشعبية أن "تركيا سددت كامل ديونها"، والصحيح أن تركيا سددت آخر قسط من ديونها لصندوق النقد الدولي. وقد ساهم تدفق رؤوس الأموال الأجنبية الى تركيا من المراكز الرأسمالية التي تعاني من حالات الانكماش الاقتصادي بعد انفجار الأزمة الاقتصادية، برفع معدلات النمو الاقتصادي. وبمجرد شعور القطاع المصرفي باقتراب تركيا من الأزمة السورية وحالات عدم الاستقرار التي تعيشها المنطقة سحبت المصارف الأجنبية نحو 90 مليار دولار أي حوالي 9 % من الناتج المحلي التركي. ومن المعروف أن الاعتماد على التمويل الخارجي يحمل بطياته مخاطر كبيرة، كما أصبحت القروض وخدماتها تشكل عبئا ثقيلا على الاقتصاد التركي .
وفي غمرة الأحداث التي تشهدها المنطقة، لا يمكن تجاهل أثر الأزمة السورية على اقتصاد المنطقة عامة وتركيا على وجه الخصوص، فقد اتجهت تركيا نحو توسيع علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع الدول العربية، خاصة بعد أن فشلت في انتزاع عضويتها في الاتحاد الاوروبي بسبب تعنت الدول النافذة وفي المقدمة المانيا. وبرغم ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي الا أن عائدات التنمية لم توزع بشكل عادل في المجتمع التركي، وبقيت الفجوة تتسع بين الشرائح الاجتماعية حيث واصلت السياسات الاقتصادية التركية نهجها الليبرالي، من دون الأخذ بعين الاعتبار الآثار السلبية على الوضع الاجتماعي، فقد بلغ مؤشر (جيني) (الذي يقيس مستوى توزيع الدخل والثروة) الى 42 % في تركيا، وتأتي تركيا الدولة رقم 55 بين دول العالم التي تحقق مستويات أفضل من تركيا في توزيع الدخل.
ثانيا: اقحمت الحكومة التركية نفسها بالأزمة السورية، واحتضنت المعارضة وقدمت لها دعما لوجستيا وأصبحت مقرا لها، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تركيا عضو في حلف شمال الأطلسي، وهي لا تتصرف بمعزل عن حلفائها الغربيين، وتتمتع الحكومة التركية بتأييد قوي من الولايات المتحدة الاميركية، فالتحرك التركي تمليه المصالح الخاصة لتركيا وحلفائها، وليس انطلاقا من التضامن مع الشعب السوري والحرص على تحقيق الديمقراطية والتعددية السياسية في سورية. فالمنطقة تتجاذبها مصالح دول اقليمية ودولية.
ثالثا: أصدرت الحكومة التركية بعض القوانين التي جسدت فكرة الإسلام السياسي في دولة علمانية، وقد تعرضت هذه القوانين لانتقادات واسعة في تركيا، فالأتراك الذين يعيشون في دولة علمانية يعتقدون أن الحكومة التركية تقوض حرياتهم خاصة في مجال حقوق المرأة. وقد تصدت الحكومة التركية للتظاهرات بعنف، وتعرضت لانتقادات واسعة من منظمات حقوق الانسان، حول قمع التظاهرات الشعبية والاعتقالات بين صفوف الصحافيين، كما انتقدت دول الاتحاد الاوروبي الاجراءات الحكومية، وقد اُعلن عن نية الاتحاد تأجيل جولة المفاوضات المقررة مع تركيا حول عضويتها في الاتحاد. وهي مناسبة جديدة لوضع العراقيل أمام عضويتها في الاتحاد، برغم توفر الشروط الاقتصادية المطلوبة، وأهمها الالتزام بمعايير معاهدة ماستريخت التي تشترط عدم تجاوز نسبة الدين العام 60 % من الناتج المحلي الاجمالي. إلا أن ابواب الاتحاد الاوروبي ما زالت موصدة في وجه تركيا.
هذه الأسباب مجتمعة وغيرها من الأسباب المتعلقة بتهميش الثقافات المتعددة في المجتمع التركي وراء الاحتقانات التي انفجرت بتعبيراتها الشعبية المختلفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق