يشكل الناقد بشير حاجم ، صفحة واضحة المعالم على صفحات النقد الأدبي ، في مشهد الثقافة العراقية ، ومتابعا لكل مطبوع جديد ، سواء كان ذلك في الأدب القصصي أو الشعري ، ليمنحه شهادته بالنقد ، وصار حضوره معلنا في جميع الروابط الثقافية ، وهذه هي تفاصيل يوميات الناقد التي تستدعي الحضور والمتابعة ، وقريبا من عالمه النقدي سجلت هذا الحوار معه .
هل ثمة مدرسة عراقية خاصة بالنقد العراقي؟
ـ أستطيع القول بثقة، وأنا أتحدث بعلمية الآن، إن نقدنا الحاضر ذو منهجيتين. المنهجية الأولى تقليدية، سياقية، أصحابها، غالبا أو دائما، يكتبون نقدا عن المبدع لا عن نصه. لذلك، أعلل، أنهم يكتبون عن النص واقعين تحت تأثير مبدعه عليهم. فـهؤلاء التقليديون «السياقيون»، إذن، لا يضعون ما هو خارج النص جانبا. هكذا هم، عموما، ينسون النص، إبداعا، ويركزون على مبدعه، إنسانا، في كتاباتهم. كأنهم، في النسيان والتركيز هذين، لا يعون أن هذا المبدع، الإنسان، هو أول المسميات الخارجة عن نصه، الإبداعي، بالضرورة. أما المنهجية الثانية فهي تحديثية، نصية، وهذه، في رأيي، كانت، خلال العقد الأخير/ ما بعد نيسان 2003 خصوصا، قد انطلقت إلى فضاء التعامل مع النص دون الاكتراث، أو المبالاة، بمن كتبه. فلا شيء خارجه، إطلاقا، بل ثمة التموضع فيه، في البنية غير المتجانسة له، حيث العثور على توترات، أو تناقضات، يَقرأ النصُّ من خلالها نفسَه، أي يفكك نفسه بنفسه، حسب جاك دريدا. جيل النقاد الجدد، وأعني بهم التسعينيين ومن بعدهم، أغلبهم، تقريبا، من أصحاب هذه المنهجية التحديثية، النصية، في النقد. أظن أن هؤلاء، إجمالا، قد بدأوا بتأسيس مدرسة نقدية خاصة بهم.
كثيرا ما يتردد بأن النقد العراقي يستعير من المنظور العالمي سمات النقد؟
وما الضير، أيّ ضير، في ذلك؟ هناك بنيويون أميركيون، مثلا، ما زالوا، حتى يومنا هذا، ينهلون من البنيوية الفرنسية! على الرغم من أن البنيوية الأميركية متميزة بالصرامة المنهجية، نعم، منذ رائدها ليونارد بلومفيلد. لا إشكال في الاستعارة، إذن، بشرط، حتما، ألاّ تكون «ببغاوية». بل الإشكال، كله، في المروجين بأن نقدنا «مستورد». إنهم أصحاب المنهجية التقليدية، السياقية، سيما «كبارهم». هؤلاء يقصدون أصحاب المنهجية التجديدية، النصية، في ترويج كهذا. وهو، خصوصا، ملخص لجميع اعتراضاتهم غير الرصينة. إنها ليست ذات طبيعة واحدة، فقط، بقدر ما هي ذات «طبيعات» عدة. ثمة، أولا، إعتراضات على المنهج واللغة والأسلوب والتحليل. وثمة، ثانيا، إعتراضات حتى على المصطلح، النقدي، الذي، أو إذا، لم يكونوا، هم، قد سمعوا به. بل ثمة، ثالثا، إعتراضات على كل شيء وأي شيء. سيما اعتراضهم على قراءة نصوص جيلينا «التسعيني» و»الأخير»، فضلا على الكتابة عنها، بدعوى أنها «غير ناضجة بعد». ويبدو أن «نضاجة النصوص» في رأيهم، الذي ملّه النقد «أكلا وشربا»، قد توقفت عند الجيل «الثمانيني»! كيف لا، ؟؟؟، و»الثمانينيون»، اليوم، إنما هم آخر «أصدقائهم» المعول عليهم في إرسال «الدعوات» إليهم من «الخارج»!!!
من يحتاج من.. الناقد أم المبدع؟. سواء في الرواية أو الشعر أو حتى التشكيل؟
ـ لا إشكالية، في اعتقادي، إسمها «الناقد أم المبدع؟» من حيث احتياج أحدهما لآخرهما. لأسمِّ العلاقة بينهما، هنا، بالـ»جدلية». أعني بها، إجمالا، تضافريتهما. أي، تفسيريا، تضافرية الجهد النقدي والنشر الابداعي. لكن هذه التظافرية، التي يفترض أنها واحدة، ذات حدين: سلبي وإيجابي. سوف أتحدث تلميحيا عن حدها الثاني، الايجابي، حين أتحدث تصريحيا عن حدها الأول، السلبي، بالضرورة. إنه، بصراحة، متمثل في النظر إليها نرجسيا من طرف «الابداع». نظرٌ كهذا، نرجسي، يقتصر على بعدين. ثمة، أولا، البعد النوعي: محدودية مستوى النقد. وثمة، ثانيا، البعد الكمي: قلة النقاد الجادين. هذان البعدان مهمان، صحيح، بيد أن هنالك بعدا أهم منهما. ذاك، تحديدا، هو البعد الكيفي. أعني، به، دور الجهد النقدي تجاه مد النشر الابداعي. حين يتابع جهد النقد نشر الابداع، حيث دور الأول ومدّ الثاني، يتابعه قارئا استثنائيا لا اعتياديا. لكنه، بين حين وآخر، ينتقي جزيئا منه كاتبا. بهذا الإنتقاء، الحيني، يحاول جهد كهذا، نقدي، أن يخلق من الجزيء المنتقى، هذا، نصه الفذ. إذن، في المحصلة، إزاء مد النشر الأدبي، الذي يزعم أصحابه أننا متأزمون حياله، ذا دور الجهد النقدي. أو لأقلْ، بعلمية أكبر، هذا هو «تصور الوعي النقدي» بتعبير جوليا كريستيفا.
* هل تخشى العمل الأدبي أم الكاتب في موضوعك النقدي؟
في الدرس النقدي الأحدث، الذي أحترفه منذ منتصف التسعينيات، ثمة ما هو من أهم التعاليم الرَأيوية. ذاك، تعليم ـ رَأيوي ـ كهذا، أنه ليس هنالك نص ناجح وثان فاشل. أو، إن شئت الدقة، لم يعد هنالك نص جيد وآخر سيء. رولان بارت، مثلا، هكذا ينظّر «إذا كنت أقبل أن أحكم على نص بما تقتضيه اللذة، فأنا لا أسمح لنفسي بالقول: إن هذا لجيد، وإن هذا لسيء». وفقا لتنظيره هذا، الذي أؤمن به، كل نص، أيّ نص، يحمل «ثيمته» وخصوصيته وثراءه. أما الجودة والرداءة، أو النجاحية والفشلية، فقد صارتا ـ عندي قي الأقل ـ من «كلاسيكيات» نقدنا القديم. بل حتى هذا النقد، رغم قدامته، لم يقصر علمه بالشعر على جيده ورديئه. لقد قال، عن هذا العلم، إنه (ينقسم أقساما: فقسم ينسب إلى علم عروضه ووزنه، وقسم ينسب إلى علم قوافيه ومقاطعه، وقسم ينسب إلى علم غريبه ولغته، وقسم ينسب إلى علم معانيه والمقصد به، وقسم ينسب إلى علم جيده ورديئه). بمعنى، تفسيرا، أن الناص، أيّ ناص، لا يعنيني، إطلاقا، كما يعنيني نصه. الأكثر، من هذا، انْ لا فرق عندي، في العملية النقدية، بين نصٍّ صاحبه كبير، كـ»مالئ الدنيا وشاغل الناس»، وبين آخرَ صاحبُه صغير، ما زال في أول الطريق، بتاتا.
البعض ينظر لك قسوة تشريحك النقدي للكثير من الأعمال، كيف ترد على ذلك؟
ما يرونه «قسوة»، !!!، هو أدنى متطلبات «نصيتي» المناوئة لـ»سياقيتهم». أولاء، أدريهم، متفننون في التقوّل عليّ. بعضهم يرى، بحسن نية ربما، أنني أطرح وجهات نظر مخالفة. وبعض ثان، منهم، يصرح بأن لدي رؤية مختلفة. فيما يذهب البعض الآخر، بسوء نية حتما، إلى كوني محبا للإثارة فقط! لست مطربا، ولا ممثلا، لأحب «الإثارة». وسأُجْمِل وجهات نظري «المخالفة»، عندهم، حيث أختصر واحدة من تلك «الطبيعات» الإعتراضية، السياقية، التي فرشتها في جواب سابق. أنا أرى أن على النقد، الحق، أن يفوق الأدب، الحق أيضا، ويتفوق عليه. لذا، لزاما، عندما أكتب نصا نقديا لأي نص أدبي، مهما كان، أكون، بدءا، قد صممت على إبداعِ نص نقدي، نَعَمْ إبداعه، لا ينتابه أيُّ إحساس بأية عقدة دونية قبالة هذا النص الأدبي. لكن «السياقيين»، خصوصا، لا تروق لهم رؤيتي هذه. العجيب، كل العجب، أن هذي الرؤية «المختلفة»، بحسبهم، ليست غريبة عن وسطنا النقدي. إنها تلك المنادية، في العملية النقدية، بالنص فقط دون ناصه. وحسنا فعل ميشيل فوكو، بعد بارتيّة (موت المؤلف)، حين عنون إحدى محاضراته بـ?»Qu›est-ce qu›un auteur « أي «ما المؤلف؟». فصيغة الاستفهام هنا، «ما» لا «من»، تدل على «تمويت الماهية الإنسانية للمؤلف».
والجدير بالذكر أن الناقد بشير حاجم ¡ بكالوريوس في اللغة العربية (آداب) ، وعمل سكرتير تحرير صحيفة (المؤتمر)/ مدير تحرير مجلة (السؤال) وعضو الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق بصفة (ناقد) منذ العام 1995 وعضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب بصفة (ناقد) منذ العام 1998 ونشر عشرات المقالات والدراسات والبحوث النقدية (الادبية/ التشكيلية/ المسرحية) في الصحف والدوريات العراقية والعربية منذ العام 1993 أصدر كتابين في النقد الادبي * زمن الحكي.. زمن القص/ تقنية الحوار في الرواية العراقية، 2009 * النسق النصي والنسق المتني ـ في الحركتين المتضافرتين للقصيدة (الانبناء/ الانهدام)، 2010 سيصدر له خلال العام الحالي كتاب (رأي الشاعر.. رؤية القصيدة/ العقدان الحياتي والفني للجيل التسعيني) شارك في معظم المهرجانات والملتقيات والمؤتمرات الثقافية عموما والنقدية خصوصا داخل العراق.
مقالات للكاتب الناقد بشير حاجم: دور النقد مد النشر الابداعي في الدرس النقدي الحديث ليس هنالك نص ناجح وثان فاشل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق