الأحداث التي تعصف بالمنطقة العربية منذ العام 2011 وحتى اليوم، غيرت الكثير من هذا المشهد الذي لم يصل إلى بر الأمان ولم يحقق الدولة المدنية التي يحلم بها المواطن العربي؛ أي دولة تحتضنه وتحتضن غيره في تعددية انسيابية.
لقد كانت بداية الخروج في الشوارع، انطلاقة قوية جاءت كأسرة واحدة دون فرق في الدين والمذهب والحزب وغيرها. خرجوا دون عتب على أحد، خرجوا قبل عامين من أجل التظاهر والاعتصام ضد الاستبداد السياسي والقهر الاجتماعي الذي اتفقوا على أنه أساس الفساد والآفة الهالكة ضد حقوق الإنسان.
لكن التطورات التي طرأت على المشهد العربي قسمت الشارع العربي إلى مجموعات، فغلبت سياسة «فرّق تسُد» بسبب استمرار غطاء المد المقاوم للتغيير في المنطقة العربية الذي بدوره لن يسمح بتحقيق الديمقراطية ضمن إطار الدولة المدنية التي تحترم حقوق الإنسان. فالمادة تُسخّر لشراء النفوس من كل صنف ولون من أجل تحجيم مطالب الشارع وإلحاق الأذى ونعت من يخرج وينادي بها بالإرهابي أو المنشق أو الثائر المتمرد إلى غيرها من الأوصاف.
لا يكمن الأمر عند هذا الحد؛ فقد انعكس حتى على مواقف بعض من مجموعات المثقفين واليساريين الذين من المفترض أنهم يحملون فكراً مبدئياً حراً لكن هذه المرحلة التي تعيشها الشعوب العربية عكست مستوى العقليات وأيضاً كشفت الوجه الحقيقي لتلك المجموعات التي تدعي الإنسانية والتحرر من قيود الاستبداد والاستعباد.
إن فشل التيارات الإسلامية في الحكم وسقوط تجربتها في الشهور الأولى في بلد مثل مصر عكس الثقافة المتجذرة داخل مجتمعاتنا وهي أن نظم الحكم تطبق الاستبدادية، وهناك الفساد واستغلال السلطة لكن هذا لا يعطي مبرراً للقتل بدم بارد بتلك الصورة التي حدثت في مصر.
إن الممارسات التي خرج الناس من أجل إنهائها كلياً من حياتهم اليومية لم تذهب إطلاقاً لأنها مازالت للأسف متغلغلة داخل المجتمع العربي. والسبب يعود إلى أن هناك من يدعمها مادياً وفكرياً بل ويلعب على وتر فرقة وتقسيم كل مجتمع عربي. ببساطة ما يحدث وحدث في المشهد العراقي هو الآن يتكرر في كل بلد عربي شهد ثورات أو احتجاجات الربيع العربي.
وبالعود إلى السنوات ما قبل العام 2011 نجد أن الثقافة المتمثلة في الفكر الحر البعيد عن سلطة الدين والمذهب لم تكن كذلك في حقبة الستينيات والسبعينيات لكن المد اليساري هو من كان مهيمناً على الشارع غير أن الأنظمة السياسية في المنطقة أرادت قصف الشارع اليساري بترك الشارع لصالح التيارات الدينية لتعمل فيها في الوقت الذي ضيقت فيه على اعتقال رموز ومفكري ومثقفي اليسار.
وهذا تماماً ما حدث في البحرين وتونس ولعل أقسى هذه المشاهد هي مصر التي تغير مسارها منذ 30 يونيو/ حزيران 2013 وصولاً إلى فض اعتصام ميدان رابعة العدوية في 14 أغسطس/ آب 2013. المشهد تحول من إجماع على حماية الدولة من ممارسات تنتهك الحرية والديمقراطية إلى انقسام بين الأطراف بسبب العودة إلى الثقافة السلطوية التي تقتل وتبيد وتقصي الآخر.وفي تحليل سياسي نشره موقع «فرانس 24» من إعداد الزميل علي أنزولا أشار إلى هذا الجانب، موضحاً بأن الأمر لم يعد كذلك لأن مسلسل الاغتيال ضد اليساري في تونس وضد الإسلامي في مصر قد بدأ يغير ملامح المشهد السياسي في المنطقة العربية، معلقاً: «اليساري الذي اغتيل في تونس والإسلامي الذي أبيد في رابعة العدوية، كلاهما خرجا بالأمس القريب قبل سنتين فقط، جنباً إلى جنب، للتظاهر ضد الاستبداد والفساد. كلاهما كانا بالأمس القريب رمح الثورة ودرعها وظهرها. كان اليساري يحمي الإسلامي وقت سجوده وركوعه في ميادين الثورة، ووقف الإسلامي شاهراً سبابته ومفرداً صدره ومعلناً شهادته وهو يحمي اليساري من رصاص القناصة ويصد عنه الإبل الجفلانة يوم واقعة الجمل».
ويتساءل أنزولا في تقريره كيف تحول المشهد إلى مشهد دم «كيف صار الدم دمين: دم المغتال ودم المغدور. وكيف أصبح الشهيد شهيدين: شهيد الجنة وشهيد الحرية؟ كيف استحال الدم إلى مداد رخيص لصياغة البيانات وتدبيج الخطب وتلوين اللافتات وتزيين الرايات لتسيير المسيرات والمسيرات المضادة؟ أليس باسم الحرية كل هؤلاء ماتوا؟ ومن أجل الكرامة استشهدوا؟ ولنفس الوطن، ضحوا بأرواحهم؟ فمتى كان الدم إسلامياً حتى يطالب به اليساري؟ ومن أفتى بأن دم الشهيد نصفه حلال ونصفه حرام؟ أليس هو نفس اللون الأحمر القاني الذي سقى الأرض تحت عتبات الشقق المتواضعة للمناضلين في تونس، وروى الثرى في ساحات المواجهة بميادين القاهرة ومساجدها؟».كلام أنزولا ما هو إلا جزء من مرحلة جديدة مقبلة عليها المنطقة والمتجهة إلى منزلق لا يمكن يمحي فيها دم الشهداء أياً كانوا يساريين أم إسلاميين من الشوارع والميادين العربية التي جميعاً خرجت باسم «الحرية»...
مقالات للكاتب ريم خليفة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق