تنزلق مصر، حثيثاً إلى ما كنا نخشى منه ونحذر . فمنذ تصرف الخارجون من السلطة مع واقعة الخروج بعصبية سياسية بالغة، وبروح الانتقام، وضعت مصر أقدامها على طريق المجهول . كان يمكن لفاقدي السلطة أن يختاروا سبلاً أخرى أكثر تعقلاً وأمناً للوطن وأهله، لكنهم أعرضوا عن هذه المحجة، من أسف شديد، لأنهم رفضوا أن يقرؤوا الواقع الجديد، الناشئ في أعقاب ثورة 30 يونيو/حزيران ،2013 قراءة سليمة عاقلة، وانساقوا وراء الشعور بأن إبداءهم القوة (هو) أقرب المسالك إلى استعادة ما ضاع منهم، أو أضاعوه في غمرة نشوتهم بملذات السلطة . وقد شجعهم على الإمعان في ذلك الذي انساقوا إليه من أوحى إليهم من الأجانب، ومن بعض قليل جداً من العرب، بأنه ينصر “مظلوميتهم” بتصريح سياسي هنا، أو وساطة هناك، أو بكاء إعلامي هنالك، مغرراً بهم من حيث لم يعلم، ومسيئاً إلى مصر وشعبها من حيث يعلم .
كان يمكن تجنب هذا المشهد الدموي الجاري لأنه، بكل بساطة، لم يكن قدراً مقدوراً، ولا مآلاً موضوعياً وحتمياً . كان يمكن تجنبه لو أن أبطاله وصنّاعه تصرفوا بطريقة أخرى أدعى إلى حسن العواقب، لو أن قياداتهم كانت من المسؤولية السياسية والوطنية على قدر المرحلة وما تفرضه على العقلاء من حسن التفكير والتصرف . والحق أن المشكلة - كل المشكلة - في هذا الذي جرى ويجري، منذ الخروج من السلطة، لم تكن في تلك الحشود التي تجمعت في الميادين لتدافع عن عودة سلطة قضت، منذ اليوم الثلاثين من يونيو/حزيران ،2013 وإنما هي كانت في “قيادات” صورت للناس أن المعركة مكسوبة لأنها معركة بين “الحق” و”الباطل”، ودفعت الناس إلى ركوب المجهول، وطلب المستحيل . وليس يعنينا في الموضوع أن هذه القيادات خدعت جمهورها، وغررت به، إنما يعنينا أن أوهامها التي أشاعتها في أنصارها، وانطلت على هؤلاء، فجرت فيهم غضباً هستيرياً يهرق الدماء، ويشعل النار في الأخضر واليابس: في مؤسسات الدولة، والمنشآت العامة، والأملاك الخاصة، والكنائس، والمكتبات العامة، وفي أمن مصر و وحدتها الوطنية .
وها هي الأمور تتجه، اليوم، نحو الأسوأ: منذ فض اعتصامي رابعة العدوية ونهضة مصر، فتنتقل البلاد سريعاً من مشهد الاعتصامات التحريضية والمسلحة إلى التظاهرات المسلحة، والاشتباكات مع الأهالي وقوات الأمن، ولعل الذاهبين في هذا الخيار الانتحاري لا يراهنون على شيء منه سوى على استقدام التدخل الأجنبي، أو نشر الفوضى واستدراج السلاح “الجهادي” إلى دخول المعترك لاستنزاف الدولة وأجهزتها . وهم، في الحالين، يخسرون رصيدهم - أو ما تبقى منه - مع شعبهم الذي يمكن أن يتفهم مطالبهم، ولكن الذي لا يمكن أن يقبل منهم المساس بأمنه الاجتماعي و وحدته الوطنية، حتى لو كلفه ذاك الوقوف مع خيار الاستئصال الأمني من دون شروط أو تردد، مثلما حصل في جزائر التسعينيات حين انتقلت قطاعات واسعة من الشعب، وفي زمن قياسي، من التعاطف مع “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” إلى الاصطفاف وراء النظام والجيش في المعركة ضد “جيش الإنقاذ” (ذراع الجبهة العسكرية حين جنحت الجبهة للعمل المسلح)، ثم ضد “الجماعة الإسلامية المقاتلة” . ويعرف الجميع ماذا كانت نتيجة ذلك التحول في الجزائر .
ليس خليقاً بالجانحين للعنف في مصر أن يركبوا مركب الإسلاميين الجزائريين، قبل نحو عشرين عاماً، لأنه مركب آيل إلى الغرق حتماً، وهو عينه مصير مركب إسلاميي سوريا والإسلاميين المستوردين إليها من خارج. يحسن بهم أن يسلكوا نهج إسلاميي تركيا، قبل نحو خمسة عشر عاماً، حين أخرجوا من السلطة - في عهد رئيس الحكومة نجم الدين أربكان - ليجدوا أنفسهم في المعارضة . ومع أن “حزب الرفاه”- المتحالف في الحكومة مع حزب تانسو تشيلر - أخرج بانقلاب دستوري أبيض، شارك فيه الجيش والقضاء (وليس ذلك ما حصل في مصر، حيث خروج مرسي من السلطة كان بثورة شعبية لا سابق لها في التاريخ)، إلا أن إسلاميي تركيا تحاشوا ركوب الخيارات الانتحارية، فبلعوا الضربة السياسية، وأعادوا النظر في أخطائهم السياسية التي قادتهم إلى فقدان السلطة، وعادوا إلى الشعب وإلى المشاركة في الحياة السياسية، ولم تنقض خمس سنوات على ذلك حتى عادوا إلى السلطة ظافرين في إطار حزبهم الجديد: “حزب العدالة والتنمية”. إن معارضة النظام القائم، أي نظام قائم، معارضة مشروعة من وجهة نظر الفكرة الديمقراطية، لكنها لا تكون بالعنف والسلاح، بل بالوسائل السياسية السلمية، وهي حين تتحول إلى السلاح، تصبح مواجهة للدولة والمجتمع لا للنظام . وهكذا تخسر المعارضة قضيتها بمثل ما تتعرض الدولة والمجتمع معاً لخسارة الأمن والاستقرار، وربما وحدة الكيان وسيادته . لا نريد بهذا أن نحمل أهل العنف وحدهم، وبشكل حصري، مسؤولية هذه الأحداث المؤسفة والخطرة التي تجري وقائعها الدموية في البلد، ونبرئ ساحة النظام الانتقالي والأجهزة الأمنية، فحتى حلفاء النظام ساءهم كثيراً الإفراط في استعمال القوة (استقالة محمد البرادعي والناطق باسم “جبهة الإنقاذ الوطني” مثالاً)، ولكن ماذا تستطيع أية دولة في العالم أن تفعل أمام عنف أعمى يجهر بنفسه كل يوم ؟.
مقالات للكاتب عبد الإله بلقزيز
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق