بدأ مسلسل التفجيرات يخضّ الساحة اللبنانية . ما كان يحكى عن عناصر ضامنة للاستقرار اللبناني في الداخل والخارج لم يعد له ما يبرره . فلا قوة أي طرف تمنع هذه التفجيرات كما كان يُشاع، ولا المؤسسات الأمنية اللبنانية قادرة على الإحاطة بالوضع نتيجة الانقسام السياسي، ولا القرار الدولي يعتبر لبنان خارج الصراع خاصة بعد تدخل القوى اللبنانية تدخلاً مكشوفاً في الأعمال الحربية على الساحة السورية . صحيح أن القرار الدولي حاول حصر الصراع داخل سوريا التي تحسم جزءاً مهماً من المعادلة الإقليمية . لكن إطالة أمد الأزمة والتعقيدات التي رافقتها والتورط المتزايد للقوى الإقليمية ولدول الجوار لم يعد يسمح بحصر الأزمة. بل إن الاتجاهات التي اتخذتها المعارك الميدانية مؤخراً تؤشر بوضوح على حالة التفكك في جغرافيا الدولة ورهانات على مناطق نفوذ ذات بُعد طائفي ما قد يجعل الجغرافيا اللبنانية كذلك عنصر التحام بالمصير السوري نفسه .
ظلت التوترات في لبنان محصورة في الشريط والمناطق الحدودية مع سوريا متأثرة بالعلاقات اليومية بين البلدين وتداخل البيئات الشعبية فيهما . لكن الدخول إلى العمق السوري ومحاولة السيطرة من الطرفين على الحدود والإمساك بها واستخدامها وسّع دائرة الاحتكاك والتوتر . إلا أن مسألة النزوح التي جاوزت المليون نسمة إلى لبنان بكل أطيافهم واتجاهاتهم نقلت جزءاً مهماً من عناصر النزاع إلى الداخل اللبناني، وهي تهدد فعلاً بتغيير الكثير من معطياته الديمغرافية والأمنية . وخلافاً لكل الرهانات والحسابات الخاطئة عن قرب تبلور معادلات قوية في سوريا في اتجاه أو آخر تؤشر المعطيات الميدانية إلى المزيد من التعقيدات والاختراقات المتبادلة ما لا يوحي بنشوء خطوط تماس ثابتة أو توازنات صلبة، كما لا يوحي الوضع الدولي باحتمالات استئناف الحوار والتفاوض على حل للأزمة .
إزاء هذه التطورات لا تبدو الأعمال التفجيرية في لبنان مجرد رسائل سياسية أو أعمال متقطعة ومتفرقة، بل هي بدأت تأخذ وتيرة متصاعدة ونوعية وفي أشكال تؤكد وجود خطة منظمة للاشتباك الطويل المدى . ومن أسف ليس هناك من يتوقف عند هذا البعد المستجد لمراجعة الخطابات والسياسات من أجل احتواء هذا المخطط، بل يذهب الجميع إلى تكرار مواقفهم والإصرار على ممارساتهم .من جهة تقف الجهات القادرة على استعمال السلاح في الجواب على الأزمة بواسطة السلاح والمواجهة المسلحة مع التدابير الأمنية المتزايدة . ومن جهة ما زالت المبادرات السياسية معطّلة والحوار مقطوعاً بين اللبنانيين والمؤسسات إلى مزيد من الشلل والفراغ وتعقيدات تشكيل الحكومة عند المربع الأول . فإذا كانت هذه الأطراف جاهزة ومستعدة للقتال في سوريا وعلى حدودها فهي حتماً مستعدة للقتال في لبنان تحت التبريرات والشعارات نفسها .لايمكن حماية لبنان تاريخياً وحاضراً إلاّ بوفاق اللبنانيين السياسي والتفافهم حول دولتهم ومؤسساتها . ولا يمكن لأي جماعة أن تحمي نفسها بنفسها في الداخل والخارج طالما هي في حالة خلاف واشتباك مع شركائها في الوطن .والأخطر من كل ذلك أن النزاعات اللبنانية لم تعد حول بعض الخيارات السياسية، بل هي صارت في صميم المشروع اللبناني وفكرة الدولة والوطن . فإذا كانت هذه الصراعات مفتوحة على احتمالات إعادة النظر في طبيعة الدولة وفي حدود الكيان وفي صلة هذا الكيان أو الجماعات بالخارج صلة عضوية ومصيرية فلا مجال لإعادة بناء السلم اللبناني والعيش المشترك في ظل دولة واحدة وحكومة مركزية واحدة . وكل الدعوات التي تلقي مسؤولية الأحداث على الدولة اللبنانية هي دعوات فارغة طالما أن الجماعات هذه لا تعطي الدولة دورها الكامل والحاسم في حفظ أمن المجتمع وأمن المواطنين وكذلك في تحديد سياسة اللبنانيين تجاه الخارج .
مقالات للكاتب سليمان تقي الدين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق