ها أنا في الثلث الثاني من اللّيل، وعبثاً أحاول عدم فتح صفحات الأخبار العربية والعالمية خشية أن أصطدم بخبر تفجير جديد. نعم لقد صارت هذه الكلمة الأكثر انتشاراً هذه الأيام في نشرات الأخبار، وفي أحاديث المحللين السياسيّين، بل وربما في أغاني الأطفال. تفجير في العراق، تفجير في لبنان، تفجير في الأسواق، تفجير في الميدان، تفجير في الجبال، تفجير في أفغانستان، تفجير في ليبيا، تفجير في سورية، تفجيرٌ... تفجيرٌ... تفجير.
آه! كم هي لعينة هذه الكلمة! ما عدت أطيق سماعها ولا كتابتها. آه كم هي رخيصة أرواحنا نحن العرب والمسلمون! كم يا ترى عدد قتلانا هنا وهناك جراء هذه التفجيرات؟ هل تريدون إحصاءات الماضي أم الحاضر؟ هل تريدون إحصاءات يومية أو أسبوعية أو شهرية؟ هل تريدون إحصاءات الجهات الرسمية أو الجهات المعارضة أو المنشقة؟ آه يا للعار! يا للخزي! كم صرنا أضحوكة بين العالمين؟
آه... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل! وأملي معقود هذه المرة في اللغة؟ نعم ففي اللغة العربية وجدت ضالّتي لأحب من جديد كلمة تفجير؛ فقد عاودني الحنين إلى القواميس لأبحث عن ضالتي في معاني هذه الكلمة، فوجدت أن الأصل في استعمالها يحمل دلالات إيجابيّة تحمل كلّ معاني الخير والتكثر والظهور والانبعاث... كل ذلك من كلمة (فجّر) ومشتقاتها. لقد توصلت إلى أن هذه الكلمة تطفح في مدلولاتها الحقيقية بالمعاني الخيّرة، أمّا المعنى السلبي الشائع اليوم والمتداول على جميع الألسنة فقد اكتسبته من الاستعمالات التشبيهية المجازية والتي، بفعل التواتر جراء كثرة الاستعمال، انزاحت من معناها المجازي نحو الاستعمال الاصطلاحي بما تنطوي عليه من دلالات سلبية سيئة مجدبة.
فإذا عدنا إلى أشعار العرب واستعمالاتهم اللغوية للجذر اللغوي (فجر)، وقفنا على معنى الكرم والعطاء غير المحدود، قال أبوذؤيب الهذلي، الشاعر العربي المخضرم ما بين الجاهلية والإسلام، في مدح قوم:مطاعيم للضيف حين الشتاء... شمّ الأنوف كثيرو الفجر
وقد جاء في لسان العرب «يقال فلان تفجّر بالكرم وانفجر، والفجر: الجود الواسع من التفجّر في الخير، والفاجر: الكثير المال». وهكذا استعمل العرب لفظ «فجّر» والعديد من مشتقاتها بمعنى العطاء والكرم والجود، وهي من المعاني الإنسانية النبيلة التي كثيراً ما سعى الشعراء العرب إلى عطف قلوب الناس عليها من خلال مدائحهم وفخريّاتهم ومرثيّاتهم .
كما يسعفنا القرآن الكريم في استعمال هذه الكلمة (تفجير) بمعانٍ أخرى ذات دلالات إيجابية، فمن نعم الله علينا أن فجّر النور في الكون، وفجّر الماء من الأرض، والنور والماء هما من أهمّ أسس الحياة ومن عناصر تكوّن الوجود. وفي اللغة يقال أفجر فلان إذا دخل في الفجر، وطريق فَجَرٌ أي واضحة، ومن هنا ارتبط الفجر بالوضوح، ثمّ ارتبط الفجر بالولادة والأمل والانبعاث على سبيل المجاز وخصوصاً عند الشعراء المعاصرين في القرن العشرين .
كما ورد في لسان العرب أيضاً «يقال انفجر الماء وتفجّر بمعنى انبعث سائلاً و «الفَجَرُ» في اللغة تفجيرك الماء، كما يطلق على تفجير الضياء وأفجر ينبوعاً من الماء أخرجه».
وارتبط تفجير الماء في القرآن الكريم بالنعم الربانية على مخلوقاته حيث جاء في قوله تعالى: «وفجّرنا خلالهما نهراً» (الكهف، 33)، كما جاء في قوله «وفجّرنا فيها العيون» (يس، 34)، أو ما ورد في سورة الإسراء من قوله تعالى: «وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً. او تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار خلالها تفجيرا». (الآية: 90 - 91).
هكذا تجتمع طائفة من المعاني العظيمة في كلمة تفجير يمكن تلخيصها في معنى التثمير، أي بثّ النور والحياة والإحسان في الأرض، وكلها من صفات الله سبحانه وتعالى. فلمَاذا لا نعود إلى رشدنا ونعمل بما في الكلمة من المعاني البناءة والإيجابية؟ لماذا نصرّ على تدنيسها بتلك المعاني الخبيثة من خلال الأعمال القبيحة اللاإنسانية؟ لماذا نترك هذه المعاني النبيلة لمعنى كلمة تفجير في اللغة ونلحّ على ما فيها من معاني الجدب والهجوم المباغت والفسق والقتل والكذب والميل عن الحقّ والخطأ... لماذا نتمسك بما في معنى كلمة تفجير من معانٍ مهلكة سيّئة؟ حقّاً إنها انتكاسةٌ لنا عن قيمنا وديننا وحتى عن معاني كلماتنا في اللغة العربية. «أسأل وأحبّ أن أفهم».
مقالات للكاتب سليم مصطفى بودبوس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق