الثلاثاء، 30 يوليو 2013

الإمام علي... وقراءة أحداث

حين تطوف بكتابه الخالد، «نهج البلاغة»، تتوقف عند فلسفته في قراءة أحداث المستقبل، بما يكشف عن بصيرةٍ نافذةٍ تشق أستار الغيوب.
بدأت تجربة الإمام علي (ع) الثورية في الحكم مع إعلان المبادئ السياسية، في أول خطاب، حين أعلن التزامه بالعدالة الاجتماعية المطلقة، دون محاباةٍ لأحدٍ أو تمييزٍ في العطاء. كان الإصلاح الاقتصادي على رأس أولوياته، في أعقاب ثورةٍ شعبيةٍ غاضبة قادها المصريون والكوفيون، وشارك فيها بعض كبار الصحابة، فيما وقف عليٌّ على الحياد الايجابي، يحاول تهدئة الخواطر والوصول إلى توافقاتٍ تحفظ الدماء وتحافظ على تماسك الدولة الإسلامية الناشئة وتضمن وحدتها. الوحدة كانت هدفاً أكبر عنده.
الإعلان الأول بردّ الأموال المسلوبة إلى بيت المال «حتى لو تُزُوّج به النساء»، والمساواة في توزيع الثروة، استنفر كثيرين من المستفيدين من الأوضاع السابقة ضده، فكان أول تمردٍ على الحكم الشعبي المنتخب، في البصرة، ما اضطره إلى الخروج إلى الكوفة لمواجهته. لم يكن اختياره للكوفة إلا بحكم الضرورة، فقد كانت بلدةً جديدةً للجند، لم يمض أكثر من عقدين على تأسيسها، حيث خُطّطت أقساماً على القبائل التي تشكّل وحدات الجيش. هذه التركيبة القلبية كانت أحد نقاط ضعفها لاحقاً. بعد حسم معركة الجمل، توجّه الإمام إلى الشام لمواجهة التمرد الثاني، وانتهى بالتحكيم الذي أدّى إلى انشقاق «الخوارج» ووقوع معركة النهروان. لقد واجهت التجربة الثورية ثلاثة حروب تحركها المصالح والأطماع والفكر السطحي المتشدد المارق عن الجادة والصواب. كان مجتمع الكوفة الذي يقاتل به بدأ يتفكّك، وفي «نهج البلاغة» الكثير من الخطب التي تنضح بمرّ الشكوى، من تخاذل أهلها عن نصرة قضية الثورة. وكان يُكثر من التحذير من مآلات الأمور وعواقب التخاذل، ويحثهم على الوحدة وتحمل مسؤوليات المرحلة: «والله لتفعلن أو لينقلن الله عنكم سلطان الإسلام ثم لا ينقله إليكم أبدأ حتى يأرز (يؤول) الأمر إلى غيركم».
كان يذهب إلى رسم سيناريوهاتٍ للمستقبل القريب: «أما أنه سيظهر عليكم من بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن، يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد...»، وينبئهم بما سيبلغه القمع من درجات: «ألا وإنه سيطلب منكم سبّي والبراءة مني...»، حيث سنّ من جاء بعده، السبّ واللعن لفارس الإسلام الأول، وفرض ذلك جزءًا من مراسم صلاة الجمعة، واستمر ذلك تسعين عاماً حتى جاء عمر بن عبدالعزيز، فأمر بإيقاف هذه البدعة المخزية. كان عليٌّ أكبر أبطال الإسلام، وكان أولّ من تعرّض للعن على منابر المسلمين. إنها إحدى مفارقات التاريخ الكبرى.
كان (ع) يتوقع أن تسير الأمور من بعده إلى الأسوأ، وتدخل الأمة في نفقٍ طويلٍ مظلم، «لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل، ولعمري ليُضعفن لكم التيه من بعدي أضعافاً بما خلّفتم الحق وراء ظهوركم، وقطعتم الأدنى ووصلتم الأبعد». فهذا الرجل القرآني، كان يخاطب مستمعيه قائلاً: «أيها الناس، إني قد بثثتكم المواعظَ التي وعظ الأنبياءُ بها أممهم، وأديت إليكم ما أدت الأوصياء إلى من بعدهم... أتتوقعون إماماً غيري يطأ بكم الطريق ويرشدكم السبيل؟». كان مثالاً عالياً للنزاهة والاستقامة والنقاء الثوري.
وفي تحليله العميق، يصوّر ما ستصل إليه الأمور بسبب ما تشيعه السياسة الغاشمة من شقاءٍ عامٍ في المجتمع: «والله لايزالون حتى لا يدَعُوا لله محرماً إلا استحلوه، ولا عقداً إلا حلّوه، وحتى لا يبقى بيت حجر ولا وبرٍ إلا دخله ظلمهم، ونبا به سوء رعيهم، حتى يقوم الباكيان يبكيان، باكٍ يبكي لدينه وباكٍ يبكي لدنياه». فالسياسة عندما تخلع عنها قيود الأخلاق والقيم، تحوّل المجتمع البشري إلى غابةٍ من الوحوش، يأكل فيها القوي الضعيف، فتكثر الآلام ويعمّ الشقاء. كان يقف على رأس التجربة، ويرصد بروز دور القبائل وزيادة تأثيرها على تطورات الأوضاع السياسية، وما حلّ بأوضاع العرب خلال الخمسين عاماً الماضية حيث أشرفوا على الشتات: «افترقوا بعد ألفتهم، وتشتتوا عن أصلهم، فمنهم آخذٌ بغضنٍ أينما مال مال معه، على أن الله تعالى سيجمعهم لشر يومٍ لبني أمية، كما تجتمع قزع الخريف يؤلّف الله بينهم، ثم يجمعهم ركاماً كركام السحاب، ثم يفتح لهم أبواباً يسيلون من مستثارهم كسيل الجنتين، حيث لم تسلم عليه قارة، ولم تثبت عليه أكمة، ولم يرد سننه رصّ طودٍ ولا حدابُ أرض، يذعذعهم الله في بطون أوديته، ثم يسلكهم ينابيع في الأرض، يأخذ بهم من قومٍ حقوق قوم، ويمكّن لقوم في ديار قوم. وأيم الله، ليذوبن ما في أيديهم بعد العلو والتمكين». فلسفة عن تاريخ المستقبل صبها في هذا القالب الأدبي البديع. كان في أيامه الأخيرة، يطلق نداءه الأخير للأمة: «أما إنكم ستلقون بعدي ذلاً شاملاً، وسيفاً قاطعاً، وأثرةً يتخذها فيكم الظالمون سنة». كان يستقرئ المستقبل وما سيحفل به من أحداث، ويسجّل نبوأته للتاريخ، حيث شهد العالم تحقيقها بحذافيرها، بعد تسعين عاماً، مع انهيار دولة وقيام دولة أخرى. سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق